على
الرغم من ثقة صبري الشديدة، في أنه قد بذل كل ما في وسعه، لتربية ابنه،
وتدريبه، وتلقينه فن المواجهة، وإعداده لما يتمناه له في المستقبل، فإن
مشاعره كأب، لم تساعده على الصبر طويلاً، أو منع ذلك القلق العارم، الذي
امتلأت به نفسه، وهو ينظر في ساعته، مغمغماً، في شيء من العصبية: كيف لم
يعد إلى حجرته، حتى هذه اللحظة؟
حاول حسن أن يبتسم مطمئناً زميله، إلا أن ذلك القلق، الذي بدأ يتسلَّل بالفعل إلى قلبه، جعله يقول، في شيء من التوتر: إنها ليلته الأولى في باريس
أجابه صبري، وهو يزفر في عصبية: كانت ساعاته الأولى في موسكو، عندما بدأ صراعه مع أحد أشرس أجهزة المخابرات في العالم
حاول
حسن أن يقول شيئاً.. أي شيء، إلا أنه عجز عن هذا تماماً، وهو يمد يده،
ويربِّت على كتف صديقه وزميله في صمت، إلا أن ارتجافة القلق في أصابعه بلغت
إحساس صبري، فالتقط سمَّاعة الهاتف مرة أخرى، مغمغماً: سأحاول الاتصال به مرة أخرى
قال حسن في صوت أجش، من فرط الانفعال: ولماذا تقلق نفسك إلى هذا الحد؟!.. هل تتصوَّر أنه حتى ولو كان في خطر، ستنقذه مكالمتك هذه
تمتم صبري، وهو يدير قرص الهاتف: من يدري
لم يتخيَّل كم كانت عبارته أشبه بالنبوءة
فحقاً.. من يدري؟
*******
توقيت مذهل، ذلك الذي حدث في تلك اللحظة الرهيبة، في حجرة أدهم الشاب، في فندق ريتز، في قلب باريس
فدون
أن ينتبه إلى ما يدبَّر له، اتجه أدهم إلى حجرته في بساطة، وذهنه شارد في
البحث عن الوسيلة المثلى، لتحذير السفارة المصرية في باريس، من تلك
المؤامرة الإسرائيلية، التي سمعها بالمصادفة، والتي تستهدف اغتيال وزير
الخارجية المصري؛ لمنعه من حضور مؤتمر دول البحر الأبيض المتوسِّط، على
الرغم من أنه يجهل تماماً متى وكيف ستتم عملية الاغتيال بالتحديد
وداخل
الحجرة، ومستتراً بالظلام التام، إلا من خيط ضوء فضي رفيع، يتسلَّل من نور
القمر، عبر فرجة صغيرة في النافذة، كان يجلس قاتل الموساد الشرس ماير،
ممسكاً مسدسه في تحفّز؛ لإطلاق النار على رأس أدهم، فور دخوله
وفتح أدهم باب الحجرة، وهم بالدخول، وصوَّب ماير مسدسه في إحكام، و
وفجأة، انطلق رنين جرس التليفون في الحجرة
وفي اللحظة نفسها، ضغط ماير زناد مسدسه
ومع رنين التليفون، تحرَّك أدهم بسرعة نسبياً؛ ليرد على المكالمة، التي استنتج فوراً أنها واردة من والده في القاهرة
ومع حركته المفاجئة، أصابت رصاصة ماير باب الحجرة، على قيد سنتيمتر واحد من رأسه
كانت أوَّل مرة، يخطئ فيها ماير إصابة الهدف، في حياته العملية كلها، لذا فقد هتف في سخط، وهو يصوِّب مسدسه مرة أخرى: اللعنة
ولكن
سرعة الاستجابة المدهشة، التي اكتسبها أدهم، من تدريباته المستمرة، عبر
سنوات طوال، بدأت مع نعومة أظفاره، أثبتت بُعد نظر صبري، في تلك اللحظة
بالتحديد
لقد تراجع في سرعة خرافية، وقد استوعب الموقف كله، وجذب باب
الحجرة معه، ليعيد إغلاقه في عنف، وأزاح رأسه جانباً، في نفس اللحظة التي
اخترقته فيها رصاصتان، من رصاصات ماير
وبينما ينطلق مبتعداً، بأقصى
سرعته، عبر ممر الفندق، أدرك أدهم أن أمره قد انكشف على نحو ما، وأن
الإسرائيليين قد أدركوا أنه قد استمع إلى خطتهم، وصار نقطة خطر بالنسبة
لهم، ومن المحتَّم التخلُّص منه
وبمنتهى العنف..
أما ماير، فقد شعر
بغضب عنيف، يستعر في أعماقه، وهو يثب من المقعد، ويندفع بدوره خلف أدهم،
وقد هاله أن يعجز عن تنفيذ مهمته، من اللحظة الأولى، كما اعتاد دوماً
وكما اعتاد رؤساؤه في الموساد
لذا،
فقد انطلق خلف أدهم، في ممر الفندق، وهو يلوِّح بمسدسه، ولكن أدهم، الذي
لم يستطع انتظار المصعد، وثب نحو باب السلم الخلفي للفندق، محاولاً الفرار
من رصاصات ماير، التي أصابت الجدار، والمصعد، قبل أن يندفع أدهم إلى السلم
الخلفي
فهتف ماير في غضب: لن تفلت مني أبداً أيها الصبي العنيد
اقتحم مدخل السلم الخلفي للفندق بدوره، وهو يشهر مسدسه في تحفُّز، وشراسة الدنيا كلها تطلّ من عينيه، و
وتوقَّف دفعة واحدة..
فعلى الرغم من امتداد السلالم الخلفية لثلاثة أدوار سفلية على الأقل، لم يكن هناك أثر لأدهم
وفي عصبية، رفع ماير عينيه إلى أعلى، بحثاً عن محاولة فرار علوية، ولكن السلالم العلوية كانت خالية أيضاً
خالية تماماً
وفي توتر غاضب، تلفَّت ماير حوله، ولوَّح بمسدسه يميناً ويساراً، وقبل أن يرفع عينيه إلى أعلى، انقضّ عليه أدهم الشاب
كان
يتعلَّق بالحاجز العلوى للمدخل، ويعتمد على قوة ساقيه وذراعيه، للتشبث
بزاوية السقف والجدار، لذا لم يره قاتل الموساد، من زاوية اقتحامه السلالم
الخلفية
وكانت الانقضاضة مباغتة
مباغتة للغاية..
ومع عنف
الانقضاضة، وعامل المفاجأة، سقط ماير أرضاً، وطار مسدسه من يده، ليزحف
أرضاً، حتى ارتطم بالجدار، وارتد لنصف متر على الأقل، في نفس الوقت الذي
كال له أدهم فيه لكمة قوية في فكه، وأخرى في أنفه
ولكن تلك اللكمة الأخيرة لم تكتمل
لقد
تحرَّكت يد ماير في سرعة مدهشة؛ ليتلقَّى قبضة أدهم في راحته، وهو يقول في
صرامة غاضبة: لست أدرى كيف ومتى تعلَّمت كل هذا أيها الصبي، ولكنك لم تبلغ
بعد نصف قدرات ماير
قالها، وهو يثب واقفاً بحركة بالغة النشاط والمرونة، ويلقي أدهم بعيداً عنه، ثم ينقضّ عليه
كان
بالفعل أكثر قوة ومرونة من أدهم، بحكم خبراته الطويلة، وسنوات صراعه
الوحشية، وتدريبات أيام الكوماندوز وفرقة التصفية والاغتيالات
ولقد أدرك أدهم على الفور، أن قتالاً مباشراً قد ينحسم لصالح خصمه
لابد إذن من خطة قتال ذكية
وخبيثة..
وسريعة..
*******
الهجوم
خير وسيلة للدفاع يا أدهم.. ابحث في خصمك عن نفس الثغرة، التي ينبغي أن
تبحث عنها في أي نظام أمن تواجهه.. الثغرة يا أدهم هي المدخل المباشر
للفوز.. دائماً
استعاد عقله كلمات والده، في جزء من الثانية، وماير ينقض عليه مرة أخرى، في شراسة ووحشية أكثر
كان رجلاً ضخم الجثة، عريض المنكبين، اعتاد القتال والصراع، واعتاد أكثر أن يُخضع خصمه بصرخات وحشية، ونظرات مخيفة
ومن المؤكَّد أنه، في كل انقضاضاته، كان يعتمد اعتماداً مباشراً على ما يصيب خصمه، وعلى الجمود الذي يكتنفه في مواجهته
لذا، فقد تحرَّك أدهم بأقصى سرعة وخفة، متفادياً انقضاضة قاتل الموساد العملاق، ووثب محاولاً التقاط سلاح هذا الأخير
ولكن
ظهره تلقى ركلة بالغة العنف، دفعته مترين كاملين إلى الأمام، ليرتطم بحاجز
السلم في عنف، وعندما استدار ليواصل القتال، فوجئ بفوهة مسدس ماير،
المزوَّدة بكاتم للصوت، مصوَّبة إلى رأسه مباشرة، وخلفها وجه ماير الوحش،
وهو يقول في شراسة: أخبرتك بأنك لن تبلغ نصف إمكانياتي أيها الصبي
وبابتسامة شامتة وحشية، ضغط زناد مسدسه، وفوهته مصوَّبة نحو جبهة أدهم
تماماً..
*******
على
الرغم من أن عقارب الساعة قد تجاوزت منتصف الليل، فإن مجموعة من السيارات
الفرنسية الصغيرة الخاصة، توقَّفت في أماكن مختلفة متباعدة، حول منطقة قوس
النصر في باريس، وهبط من كل سيارة رجلان، يرتديان ثياباً عادية بسيطة، من
طراز مألوف، تميل إلى الشرقية، منها إلى الأوربية، ويحملان في يديهما حقيبة
صغيرة من القماش
ومن اتجاهات مختلفة، أتى الرجال؛ ليتجمَّعوا تحت قوس
النصر، دون أن يتبادلوا كلمة واحدة، مع بعضهم البعض، بل حرصوا أشدّ الحرص
على أن تبدو هيئتهم، وكأنهم مجموعة من السائحين، يتجوَّلون في ليل باريس
الساحر
وفي
توقيت دقيق، وبخطة مدروسة بعناية فائقة وصلت سيَّارة فان إلى المنطقة،
يقودها سائق ضخم الجثة، يبدو أشبه بمصارع، منه بسائق سيارة، وإلى جواره جلس
رجل حاد الملامح، واضح الذكاء
رجل يدعى إليعازر..
وبإشارة واحدة
منه، اتجه الرجال كلهم إلى السيارة، التي فتح كاهان صندوقها الخلفي، ليظهر
هو ودافيد، وبينهما كومة من الأسلحة والأدوات
وبدون تبادل كلمة واحدة، قفز الرجال داخل الفان، وما أن اكتمل عددهم، حتى انطلقت بهم السيارة، نحو وجهة تم تحديدها مسبقاً
نحو مبنى السفارة المصرية
مباشرة..
*******
تطلَّع
حسن إلى ساعته، التي أشارت عقاربها إلى ساعة متأخرة، ورفع عينيه إلى صبري،
الذي بدا شديد القلق والتوتر، وقال في خفوت: لا يوجد ما يمكن فعله في
الوقت الحالي يا صديقي
أومأ صبري برأسه موافقاً، وقال: وهذا ما يزيد من قلقي
اتجه نحوه، قائلاً: لو أن الأمر يقلقك إلى هذا الحد، يمكنك الاتصال برجالنا، في مكتب باريس، أو بالسفارة نفسها، ليتخذوا ما يلزم
فكَّر صبري بضع لحظات، ثم لم يلبث أن هزَّ رأسه نفياً، وقال في حزم: لا يمكنني أن أفسد رحلته الميدانية المنفردة الأولى
اعترض حسن، قائلاً: ولكن
استوقفه
صبري، بمنتهى الحزم، قبل أن يقول: كلا.. أنا رجل مخابرات في المقام
الأوَّل، وكل ما أنشده هو صالح أدهم، وحتى لو راودتني أبوتي على حمايته،
فأنا أدرك أنه من الأفضل له، مستقبلاً، ألا أتدخَّل الآن
قال حسن معترضاً: هذا بشأن مستقبله.. فماذا عن حاضره؟
صمت صبري طويلاً، قبل أن يقول في حزم، امتلأ بالمرارة والحزن، على الرغم منه: هذا شأنه.. وحده
نطقها وكيانه كله يتمزَّق
بمنتهى العنف..
*******
عندما
ضغط ماير زناد مسدسه، كان واثقاً كل الثقة من إصابة هدفه في مقتل،
فالمسافة التي تفصله عن أدهم، لم تكن تتجاوز مترا واحدا، وهو لم يخطئ
أهدافاً أكبر، من مسافات أبعد
أبعد بكثير..
ولقد ضغط زناد مسدسه بمنتهى الغضب والقوة
ولكن الرصاصة لم تنطلق
ففي غمرة غضبه وثورته، لم ينتبه ماير، إلى أنه قد أفرغ خزانة رصاصاته كلها، وهو يطارد أدهم في الفندق
وعندما كشف هذا، مع عدم انطلاق رصاصته، حاول أن يستبدل الخزانة، بكل ما يملك من سرعة
ولكن أدهم لم يمهله
ولم يضع لحظة واحدة؛ فعندما لم تنطلق الرصاصة، تحرَّك بأقصى سرعة وخفة ومرونة
السرعة
يا أدهم.. السرعة هي سلاحك الأوَّل، في مواجهة خصومك.. ينبغي أن تتعلَّم
كيف تضرب بسرعة، وتتفادى الضربات بسرعة، وتكر بسرعة، وتفر بسرعة.. والأهم..
أن تفكِّر وتتخذ القرار.. بأقصى سرعة
كثيراً ما ردَّد والده هذه الكلمات على مسامعه، وهو يدرِّبه على سرعة الاستجابة، وكيفية اتخاذ القرار، في المواقف الصعبة
ولقد أحسن الاستفادة من تعاليمه
إلى أقصى حد..
فما
أن اندفعت يد ماير، نحو جيبه لالتقاط خزانة رصاصات جديدة، حتى وثب أدهم
نحوه وثبة بالغة المرونة، وركله ركلة مباغتة في أنفه، أسقطته أرضاً في عنف،
وهو يطلق سباباً عبرياً ساخطاً
كما أغشت الركلة بصره لحظة
لحظة واحدة..
وعندما استعاد بصره بعدها، لم يكن هناك أثر لأدهم
أدنى أثر..
وجنّ جنون ماير وهو يبحث عنه في كل مكان حوله
أعلى السلم الخلفي
وأسفله..
في الممر..
في حجرته..
وكل هذا لم يسفر عن شيء
أى شيء..
وبكل غضبه وثورته، غمغم ماير، وهو يعيد مسدسه إلى حزامه: هذا الصبي الوغد
تلفَّت
حوله، وكأنه يبحث عن مخرج، ثم لم يلبث أن اندفع مغادراً الفندق كله،
متجهاً نحو النقطة، التي ينبغي أن يلتقي فيها رئيسه إليعازر
كان إليعازر
قد تمركز، في تلك اللحظة، مع فريق المستعربين، في نقطة قريبة من السفارة
المصرية، يراجعون خطتهم، ويرتدون الأوشحة الفلسطينية، استعداداً للهجوم
ولقد كانت دهشة إليعازر بالغة، عندما فوجئ بـماير يقدم عليه في موقع الاستعداد، وما أن رآه حتى سأله بصرامة: هل أنجزت مهمتك
شعر ماير بحنق لا مثيل له، وهو يشيح بوجهه قائلاً: ليس بعد
انعقد حاجبا إليعازر في غضب، وهو يقول: ولِمَ لا، لم تعثر على الصبي
بدا صوت ماير عصبياً محنقاً، وهو يقول: بلى، ولكنه ليس صبياً عادياً
حدَّق إليعازر فيه بدهشة مستنكرة، وهو يقول، وقد تضاعف غضبه: ماذا تعني، إنه مجرد صبي مصري، يمكنك أن تلتهم عشرة مثله على الإفطار
تضاعفت عصبية ماير، وهو يقول: هذا
ما تصورته أنا أيضاً في البداية، ولكن الصبي حقاً ليس صبياً عادياً؛ فعلى
الرغم من صغر سنه، يقاتل كالوحوش، ولقد أدهشني هذا حتى إنني
قاطعه إليعازر في غضب هادر: حتى إنك ماذا؟!.. هل فقدت اتزانك؟!.. هل اضطرب ماير العظيم، عندما واجه صبياً متميزاً؟
قال ماير في حدة: ليس هذا هو السؤال، يا رجل الموساد.. السؤال الحقيقي هو: كيف اكتسب صبي مثله، مهارة مدهشة كهذه؟
أجابه إليعازر في توتر: ربما كان أحد أبطال لعبة الكاراتيه، أو
قاطعه ماير هذه المرة، في عصبية: يستحيل!.. ذلك الصبي يفكر، ويقاتل، كما لو أنه
بتر عبارته دفعة واحدة، ربما لأنه شعر أن تكملتها ستبدو مخالفة لكل منطق، فزمجر إليعازر في شراسة، قائلاً: كما لو أنه ماذا؟
تطلَّع ماير إليه مباشرة، وهو يجيب: كما لو أنه رجل مخابرات
حدَّق فيه إليعازر بمنتهى الدهشة والاستنكار، قبل أن يصيح في وجهه: أي قول أحمق هذا؟!.. ما من جهاز مخابرات في العالم، يمكن أن يضم إليه صبياً في عمره
زمجر ماير بدوره، وهو يقول: وماذا
عن السوفيت، الذين ابتكروا فكرة أطفال الـكي. جي. بي، أليس من المحتمل،
أنهم تعاونوا مع المصريين، في هذا المضمار، وأن الصبي، هو ثمرة هذا
التعاون؟
عقد إليعازر حاجبيه، وهو
يفكر في هذا الاحتمال، ثم لم يلبث أن هزَّ رأسه في قوة وعناد، قائلاً:
المصريون لم يبلغوا هذا الشأن بعد.. ليست لدينا معلومات تؤكِّد استنتاجك
هذا، ثم إن السوفيت لا يمكن أن يشاركوا المصريين، أدق أسرار جهاز
مخابراتهم.. الأمريكيون أنفسهم، عجزوا عن معرفة كيف يدرِّب السوفيت
الناشئين، في أقسام مخابراتهم
قال ماير في حدة: كيف تفسِّر مهاراته الفائقة إذن؟
أجابه إليعازر في صرامة: بأنها تبرير لفشلك في اصطياده
احتقن وجه ماير، وهو يقول: أنا لم أفشل
أجابه إليعازر، بنفس الصرامة: ولم تنجح في التخلُّص منه أيضاً
في نفس الوقت، الذي راحا فيه يتجادلان حول الأمر، كان أدهم يراقب الموقف من بعيد
لقد أدرك، بذكائه الفطرى، أن ماير، إذا ما عجز عن إيجاده، فسيعود حتماً إلى من أرسله
ومادام الهدف من اغتياله، هو منعه من البوح بما سمعه في الطائرة، فهذا يعني أن ماير سيقوده حتماً إلى العقل المدبِّر
أو إلى المسئول عن تنفيذ عملية اغتيال وزير الخارجية المصري
ولقد أدهشه للغاية، أنه التقى به هنا
عند قاعدة قوس النصر..
ولقد أدهشه أكثر، ذلك العدد من الرجال، واضحي القوة، الذين انهمكوا في ارتداء الأوشحة الفلسطينية
إنهم ليسوا فلسطينيين حتماً
فلماذا يرتدون هذه الأوشحة؟
ولماذا الآن، بعد منتصف ليل باريس؟
أدرك في هذه اللحظة فقط، أهمية قراءة حركة الشفاه، التي أصرَّ والده على أن يلقنه إياها
فمن موقعه المستتر البعيد، كان يمكنه قراءة شفتي ماير وإليعازر
قرأ جدلهما ونقاشهما المحتد
ثم قرأ ما تحدثا فيه بعدها، من ضرورة اغتياله، بعد تنفيذ خطة الليلة
هذا يعني أن الخطة سيتم تنفيذها الليلة، وليس غداً
ولكن الوزير يقيم الليلة في مبنى السفارة المصرية، و
فجأة، وعند هذه النقطة، فهم أدهم كل شيء
فهم سر التجمُّع، عند قوس النصر، في هذه الساعة
وسر الأوشحة الفلسطينية
والرجال الأقوياء
ولكنه عجز عن معرفة ما يمكن أن يفعله؛ لمنع هذا الهجوم الغادر، على السفارة المصرية في باريس
عجز لبضع لحظات
ثم فجأة، خطرت بذهنه خطة
خطة مجنونة..
تماماً..
*******
.. يـ تـ بـ ـع
الرغم من ثقة صبري الشديدة، في أنه قد بذل كل ما في وسعه، لتربية ابنه،
وتدريبه، وتلقينه فن المواجهة، وإعداده لما يتمناه له في المستقبل، فإن
مشاعره كأب، لم تساعده على الصبر طويلاً، أو منع ذلك القلق العارم، الذي
امتلأت به نفسه، وهو ينظر في ساعته، مغمغماً، في شيء من العصبية: كيف لم
يعد إلى حجرته، حتى هذه اللحظة؟
حاول حسن أن يبتسم مطمئناً زميله، إلا أن ذلك القلق، الذي بدأ يتسلَّل بالفعل إلى قلبه، جعله يقول، في شيء من التوتر: إنها ليلته الأولى في باريس
أجابه صبري، وهو يزفر في عصبية: كانت ساعاته الأولى في موسكو، عندما بدأ صراعه مع أحد أشرس أجهزة المخابرات في العالم
حاول
حسن أن يقول شيئاً.. أي شيء، إلا أنه عجز عن هذا تماماً، وهو يمد يده،
ويربِّت على كتف صديقه وزميله في صمت، إلا أن ارتجافة القلق في أصابعه بلغت
إحساس صبري، فالتقط سمَّاعة الهاتف مرة أخرى، مغمغماً: سأحاول الاتصال به مرة أخرى
قال حسن في صوت أجش، من فرط الانفعال: ولماذا تقلق نفسك إلى هذا الحد؟!.. هل تتصوَّر أنه حتى ولو كان في خطر، ستنقذه مكالمتك هذه
تمتم صبري، وهو يدير قرص الهاتف: من يدري
لم يتخيَّل كم كانت عبارته أشبه بالنبوءة
فحقاً.. من يدري؟
*******
توقيت مذهل، ذلك الذي حدث في تلك اللحظة الرهيبة، في حجرة أدهم الشاب، في فندق ريتز، في قلب باريس
فدون
أن ينتبه إلى ما يدبَّر له، اتجه أدهم إلى حجرته في بساطة، وذهنه شارد في
البحث عن الوسيلة المثلى، لتحذير السفارة المصرية في باريس، من تلك
المؤامرة الإسرائيلية، التي سمعها بالمصادفة، والتي تستهدف اغتيال وزير
الخارجية المصري؛ لمنعه من حضور مؤتمر دول البحر الأبيض المتوسِّط، على
الرغم من أنه يجهل تماماً متى وكيف ستتم عملية الاغتيال بالتحديد
وداخل
الحجرة، ومستتراً بالظلام التام، إلا من خيط ضوء فضي رفيع، يتسلَّل من نور
القمر، عبر فرجة صغيرة في النافذة، كان يجلس قاتل الموساد الشرس ماير،
ممسكاً مسدسه في تحفّز؛ لإطلاق النار على رأس أدهم، فور دخوله
وفتح أدهم باب الحجرة، وهم بالدخول، وصوَّب ماير مسدسه في إحكام، و
وفجأة، انطلق رنين جرس التليفون في الحجرة
وفي اللحظة نفسها، ضغط ماير زناد مسدسه
ومع رنين التليفون، تحرَّك أدهم بسرعة نسبياً؛ ليرد على المكالمة، التي استنتج فوراً أنها واردة من والده في القاهرة
ومع حركته المفاجئة، أصابت رصاصة ماير باب الحجرة، على قيد سنتيمتر واحد من رأسه
كانت أوَّل مرة، يخطئ فيها ماير إصابة الهدف، في حياته العملية كلها، لذا فقد هتف في سخط، وهو يصوِّب مسدسه مرة أخرى: اللعنة
ولكن
سرعة الاستجابة المدهشة، التي اكتسبها أدهم، من تدريباته المستمرة، عبر
سنوات طوال، بدأت مع نعومة أظفاره، أثبتت بُعد نظر صبري، في تلك اللحظة
بالتحديد
لقد تراجع في سرعة خرافية، وقد استوعب الموقف كله، وجذب باب
الحجرة معه، ليعيد إغلاقه في عنف، وأزاح رأسه جانباً، في نفس اللحظة التي
اخترقته فيها رصاصتان، من رصاصات ماير
وبينما ينطلق مبتعداً، بأقصى
سرعته، عبر ممر الفندق، أدرك أدهم أن أمره قد انكشف على نحو ما، وأن
الإسرائيليين قد أدركوا أنه قد استمع إلى خطتهم، وصار نقطة خطر بالنسبة
لهم، ومن المحتَّم التخلُّص منه
وبمنتهى العنف..
أما ماير، فقد شعر
بغضب عنيف، يستعر في أعماقه، وهو يثب من المقعد، ويندفع بدوره خلف أدهم،
وقد هاله أن يعجز عن تنفيذ مهمته، من اللحظة الأولى، كما اعتاد دوماً
وكما اعتاد رؤساؤه في الموساد
لذا،
فقد انطلق خلف أدهم، في ممر الفندق، وهو يلوِّح بمسدسه، ولكن أدهم، الذي
لم يستطع انتظار المصعد، وثب نحو باب السلم الخلفي للفندق، محاولاً الفرار
من رصاصات ماير، التي أصابت الجدار، والمصعد، قبل أن يندفع أدهم إلى السلم
الخلفي
فهتف ماير في غضب: لن تفلت مني أبداً أيها الصبي العنيد
اقتحم مدخل السلم الخلفي للفندق بدوره، وهو يشهر مسدسه في تحفُّز، وشراسة الدنيا كلها تطلّ من عينيه، و
وتوقَّف دفعة واحدة..
فعلى الرغم من امتداد السلالم الخلفية لثلاثة أدوار سفلية على الأقل، لم يكن هناك أثر لأدهم
وفي عصبية، رفع ماير عينيه إلى أعلى، بحثاً عن محاولة فرار علوية، ولكن السلالم العلوية كانت خالية أيضاً
خالية تماماً
وفي توتر غاضب، تلفَّت ماير حوله، ولوَّح بمسدسه يميناً ويساراً، وقبل أن يرفع عينيه إلى أعلى، انقضّ عليه أدهم الشاب
كان
يتعلَّق بالحاجز العلوى للمدخل، ويعتمد على قوة ساقيه وذراعيه، للتشبث
بزاوية السقف والجدار، لذا لم يره قاتل الموساد، من زاوية اقتحامه السلالم
الخلفية
وكانت الانقضاضة مباغتة
مباغتة للغاية..
ومع عنف
الانقضاضة، وعامل المفاجأة، سقط ماير أرضاً، وطار مسدسه من يده، ليزحف
أرضاً، حتى ارتطم بالجدار، وارتد لنصف متر على الأقل، في نفس الوقت الذي
كال له أدهم فيه لكمة قوية في فكه، وأخرى في أنفه
ولكن تلك اللكمة الأخيرة لم تكتمل
لقد
تحرَّكت يد ماير في سرعة مدهشة؛ ليتلقَّى قبضة أدهم في راحته، وهو يقول في
صرامة غاضبة: لست أدرى كيف ومتى تعلَّمت كل هذا أيها الصبي، ولكنك لم تبلغ
بعد نصف قدرات ماير
قالها، وهو يثب واقفاً بحركة بالغة النشاط والمرونة، ويلقي أدهم بعيداً عنه، ثم ينقضّ عليه
كان
بالفعل أكثر قوة ومرونة من أدهم، بحكم خبراته الطويلة، وسنوات صراعه
الوحشية، وتدريبات أيام الكوماندوز وفرقة التصفية والاغتيالات
ولقد أدرك أدهم على الفور، أن قتالاً مباشراً قد ينحسم لصالح خصمه
لابد إذن من خطة قتال ذكية
وخبيثة..
وسريعة..
*******
الهجوم
خير وسيلة للدفاع يا أدهم.. ابحث في خصمك عن نفس الثغرة، التي ينبغي أن
تبحث عنها في أي نظام أمن تواجهه.. الثغرة يا أدهم هي المدخل المباشر
للفوز.. دائماً
استعاد عقله كلمات والده، في جزء من الثانية، وماير ينقض عليه مرة أخرى، في شراسة ووحشية أكثر
كان رجلاً ضخم الجثة، عريض المنكبين، اعتاد القتال والصراع، واعتاد أكثر أن يُخضع خصمه بصرخات وحشية، ونظرات مخيفة
ومن المؤكَّد أنه، في كل انقضاضاته، كان يعتمد اعتماداً مباشراً على ما يصيب خصمه، وعلى الجمود الذي يكتنفه في مواجهته
لذا، فقد تحرَّك أدهم بأقصى سرعة وخفة، متفادياً انقضاضة قاتل الموساد العملاق، ووثب محاولاً التقاط سلاح هذا الأخير
ولكن
ظهره تلقى ركلة بالغة العنف، دفعته مترين كاملين إلى الأمام، ليرتطم بحاجز
السلم في عنف، وعندما استدار ليواصل القتال، فوجئ بفوهة مسدس ماير،
المزوَّدة بكاتم للصوت، مصوَّبة إلى رأسه مباشرة، وخلفها وجه ماير الوحش،
وهو يقول في شراسة: أخبرتك بأنك لن تبلغ نصف إمكانياتي أيها الصبي
وبابتسامة شامتة وحشية، ضغط زناد مسدسه، وفوهته مصوَّبة نحو جبهة أدهم
تماماً..
*******
على
الرغم من أن عقارب الساعة قد تجاوزت منتصف الليل، فإن مجموعة من السيارات
الفرنسية الصغيرة الخاصة، توقَّفت في أماكن مختلفة متباعدة، حول منطقة قوس
النصر في باريس، وهبط من كل سيارة رجلان، يرتديان ثياباً عادية بسيطة، من
طراز مألوف، تميل إلى الشرقية، منها إلى الأوربية، ويحملان في يديهما حقيبة
صغيرة من القماش
ومن اتجاهات مختلفة، أتى الرجال؛ ليتجمَّعوا تحت قوس
النصر، دون أن يتبادلوا كلمة واحدة، مع بعضهم البعض، بل حرصوا أشدّ الحرص
على أن تبدو هيئتهم، وكأنهم مجموعة من السائحين، يتجوَّلون في ليل باريس
الساحر
وفي
توقيت دقيق، وبخطة مدروسة بعناية فائقة وصلت سيَّارة فان إلى المنطقة،
يقودها سائق ضخم الجثة، يبدو أشبه بمصارع، منه بسائق سيارة، وإلى جواره جلس
رجل حاد الملامح، واضح الذكاء
رجل يدعى إليعازر..
وبإشارة واحدة
منه، اتجه الرجال كلهم إلى السيارة، التي فتح كاهان صندوقها الخلفي، ليظهر
هو ودافيد، وبينهما كومة من الأسلحة والأدوات
وبدون تبادل كلمة واحدة، قفز الرجال داخل الفان، وما أن اكتمل عددهم، حتى انطلقت بهم السيارة، نحو وجهة تم تحديدها مسبقاً
نحو مبنى السفارة المصرية
مباشرة..
*******
تطلَّع
حسن إلى ساعته، التي أشارت عقاربها إلى ساعة متأخرة، ورفع عينيه إلى صبري،
الذي بدا شديد القلق والتوتر، وقال في خفوت: لا يوجد ما يمكن فعله في
الوقت الحالي يا صديقي
أومأ صبري برأسه موافقاً، وقال: وهذا ما يزيد من قلقي
اتجه نحوه، قائلاً: لو أن الأمر يقلقك إلى هذا الحد، يمكنك الاتصال برجالنا، في مكتب باريس، أو بالسفارة نفسها، ليتخذوا ما يلزم
فكَّر صبري بضع لحظات، ثم لم يلبث أن هزَّ رأسه نفياً، وقال في حزم: لا يمكنني أن أفسد رحلته الميدانية المنفردة الأولى
اعترض حسن، قائلاً: ولكن
استوقفه
صبري، بمنتهى الحزم، قبل أن يقول: كلا.. أنا رجل مخابرات في المقام
الأوَّل، وكل ما أنشده هو صالح أدهم، وحتى لو راودتني أبوتي على حمايته،
فأنا أدرك أنه من الأفضل له، مستقبلاً، ألا أتدخَّل الآن
قال حسن معترضاً: هذا بشأن مستقبله.. فماذا عن حاضره؟
صمت صبري طويلاً، قبل أن يقول في حزم، امتلأ بالمرارة والحزن، على الرغم منه: هذا شأنه.. وحده
نطقها وكيانه كله يتمزَّق
بمنتهى العنف..
*******
عندما
ضغط ماير زناد مسدسه، كان واثقاً كل الثقة من إصابة هدفه في مقتل،
فالمسافة التي تفصله عن أدهم، لم تكن تتجاوز مترا واحدا، وهو لم يخطئ
أهدافاً أكبر، من مسافات أبعد
أبعد بكثير..
ولقد ضغط زناد مسدسه بمنتهى الغضب والقوة
ولكن الرصاصة لم تنطلق
ففي غمرة غضبه وثورته، لم ينتبه ماير، إلى أنه قد أفرغ خزانة رصاصاته كلها، وهو يطارد أدهم في الفندق
وعندما كشف هذا، مع عدم انطلاق رصاصته، حاول أن يستبدل الخزانة، بكل ما يملك من سرعة
ولكن أدهم لم يمهله
ولم يضع لحظة واحدة؛ فعندما لم تنطلق الرصاصة، تحرَّك بأقصى سرعة وخفة ومرونة
السرعة
يا أدهم.. السرعة هي سلاحك الأوَّل، في مواجهة خصومك.. ينبغي أن تتعلَّم
كيف تضرب بسرعة، وتتفادى الضربات بسرعة، وتكر بسرعة، وتفر بسرعة.. والأهم..
أن تفكِّر وتتخذ القرار.. بأقصى سرعة
كثيراً ما ردَّد والده هذه الكلمات على مسامعه، وهو يدرِّبه على سرعة الاستجابة، وكيفية اتخاذ القرار، في المواقف الصعبة
ولقد أحسن الاستفادة من تعاليمه
إلى أقصى حد..
فما
أن اندفعت يد ماير، نحو جيبه لالتقاط خزانة رصاصات جديدة، حتى وثب أدهم
نحوه وثبة بالغة المرونة، وركله ركلة مباغتة في أنفه، أسقطته أرضاً في عنف،
وهو يطلق سباباً عبرياً ساخطاً
كما أغشت الركلة بصره لحظة
لحظة واحدة..
وعندما استعاد بصره بعدها، لم يكن هناك أثر لأدهم
أدنى أثر..
وجنّ جنون ماير وهو يبحث عنه في كل مكان حوله
أعلى السلم الخلفي
وأسفله..
في الممر..
في حجرته..
وكل هذا لم يسفر عن شيء
أى شيء..
وبكل غضبه وثورته، غمغم ماير، وهو يعيد مسدسه إلى حزامه: هذا الصبي الوغد
تلفَّت
حوله، وكأنه يبحث عن مخرج، ثم لم يلبث أن اندفع مغادراً الفندق كله،
متجهاً نحو النقطة، التي ينبغي أن يلتقي فيها رئيسه إليعازر
كان إليعازر
قد تمركز، في تلك اللحظة، مع فريق المستعربين، في نقطة قريبة من السفارة
المصرية، يراجعون خطتهم، ويرتدون الأوشحة الفلسطينية، استعداداً للهجوم
ولقد كانت دهشة إليعازر بالغة، عندما فوجئ بـماير يقدم عليه في موقع الاستعداد، وما أن رآه حتى سأله بصرامة: هل أنجزت مهمتك
شعر ماير بحنق لا مثيل له، وهو يشيح بوجهه قائلاً: ليس بعد
انعقد حاجبا إليعازر في غضب، وهو يقول: ولِمَ لا، لم تعثر على الصبي
بدا صوت ماير عصبياً محنقاً، وهو يقول: بلى، ولكنه ليس صبياً عادياً
حدَّق إليعازر فيه بدهشة مستنكرة، وهو يقول، وقد تضاعف غضبه: ماذا تعني، إنه مجرد صبي مصري، يمكنك أن تلتهم عشرة مثله على الإفطار
تضاعفت عصبية ماير، وهو يقول: هذا
ما تصورته أنا أيضاً في البداية، ولكن الصبي حقاً ليس صبياً عادياً؛ فعلى
الرغم من صغر سنه، يقاتل كالوحوش، ولقد أدهشني هذا حتى إنني
قاطعه إليعازر في غضب هادر: حتى إنك ماذا؟!.. هل فقدت اتزانك؟!.. هل اضطرب ماير العظيم، عندما واجه صبياً متميزاً؟
قال ماير في حدة: ليس هذا هو السؤال، يا رجل الموساد.. السؤال الحقيقي هو: كيف اكتسب صبي مثله، مهارة مدهشة كهذه؟
أجابه إليعازر في توتر: ربما كان أحد أبطال لعبة الكاراتيه، أو
قاطعه ماير هذه المرة، في عصبية: يستحيل!.. ذلك الصبي يفكر، ويقاتل، كما لو أنه
بتر عبارته دفعة واحدة، ربما لأنه شعر أن تكملتها ستبدو مخالفة لكل منطق، فزمجر إليعازر في شراسة، قائلاً: كما لو أنه ماذا؟
تطلَّع ماير إليه مباشرة، وهو يجيب: كما لو أنه رجل مخابرات
حدَّق فيه إليعازر بمنتهى الدهشة والاستنكار، قبل أن يصيح في وجهه: أي قول أحمق هذا؟!.. ما من جهاز مخابرات في العالم، يمكن أن يضم إليه صبياً في عمره
زمجر ماير بدوره، وهو يقول: وماذا
عن السوفيت، الذين ابتكروا فكرة أطفال الـكي. جي. بي، أليس من المحتمل،
أنهم تعاونوا مع المصريين، في هذا المضمار، وأن الصبي، هو ثمرة هذا
التعاون؟
عقد إليعازر حاجبيه، وهو
يفكر في هذا الاحتمال، ثم لم يلبث أن هزَّ رأسه في قوة وعناد، قائلاً:
المصريون لم يبلغوا هذا الشأن بعد.. ليست لدينا معلومات تؤكِّد استنتاجك
هذا، ثم إن السوفيت لا يمكن أن يشاركوا المصريين، أدق أسرار جهاز
مخابراتهم.. الأمريكيون أنفسهم، عجزوا عن معرفة كيف يدرِّب السوفيت
الناشئين، في أقسام مخابراتهم
قال ماير في حدة: كيف تفسِّر مهاراته الفائقة إذن؟
أجابه إليعازر في صرامة: بأنها تبرير لفشلك في اصطياده
احتقن وجه ماير، وهو يقول: أنا لم أفشل
أجابه إليعازر، بنفس الصرامة: ولم تنجح في التخلُّص منه أيضاً
في نفس الوقت، الذي راحا فيه يتجادلان حول الأمر، كان أدهم يراقب الموقف من بعيد
لقد أدرك، بذكائه الفطرى، أن ماير، إذا ما عجز عن إيجاده، فسيعود حتماً إلى من أرسله
ومادام الهدف من اغتياله، هو منعه من البوح بما سمعه في الطائرة، فهذا يعني أن ماير سيقوده حتماً إلى العقل المدبِّر
أو إلى المسئول عن تنفيذ عملية اغتيال وزير الخارجية المصري
ولقد أدهشه للغاية، أنه التقى به هنا
عند قاعدة قوس النصر..
ولقد أدهشه أكثر، ذلك العدد من الرجال، واضحي القوة، الذين انهمكوا في ارتداء الأوشحة الفلسطينية
إنهم ليسوا فلسطينيين حتماً
فلماذا يرتدون هذه الأوشحة؟
ولماذا الآن، بعد منتصف ليل باريس؟
أدرك في هذه اللحظة فقط، أهمية قراءة حركة الشفاه، التي أصرَّ والده على أن يلقنه إياها
فمن موقعه المستتر البعيد، كان يمكنه قراءة شفتي ماير وإليعازر
قرأ جدلهما ونقاشهما المحتد
ثم قرأ ما تحدثا فيه بعدها، من ضرورة اغتياله، بعد تنفيذ خطة الليلة
هذا يعني أن الخطة سيتم تنفيذها الليلة، وليس غداً
ولكن الوزير يقيم الليلة في مبنى السفارة المصرية، و
فجأة، وعند هذه النقطة، فهم أدهم كل شيء
فهم سر التجمُّع، عند قوس النصر، في هذه الساعة
وسر الأوشحة الفلسطينية
والرجال الأقوياء
ولكنه عجز عن معرفة ما يمكن أن يفعله؛ لمنع هذا الهجوم الغادر، على السفارة المصرية في باريس
عجز لبضع لحظات
ثم فجأة، خطرت بذهنه خطة
خطة مجنونة..
تماماً..
*******
.. يـ تـ بـ ـع