الجولـة البـاريسيّـة..ج1
أدهم صبري.. ضابط مخابرات مصري في الخامسة والثلاثين من عمره، يرمز إليه بالرمز ن-1
حرف النون، يعني أنه فئة
نادرة، أما الرقم واحد، فيعني أنه الأوَّل من نوعه؛ هذا لأن أدهم صبري رجل
من نوع خاص.. فهو يجيد استخدام جميع أنواع الأسلحة، من المسدس إلى قاذفة
القنابل.. وكل فنون القتال، من المصارعة وحتى التايكوندو
هذا بالإضافة إلى إجادته
التامة لست لغات حيَّة، وبراعته الفائقة في استخدام أدوات التنكُّر
والمكياج، وقيادة السيارات والطائرات، وحتى الغواصات، إلى جانب مهارات
أخرى متعدِّدة
لقد أجمع الكل على أنه من
المستحيل أن يجيد رجل واحد، في سن أدهم صبري، كل هذه المهارات.. ولكن
أدهم صبري حقَّق هذا المستحيل، واستحق عن جدارة ذلك اللقب، الذي أطلقته
عليه إدارة المخابرات العامة
لقب رجل المستحيل..
*******
مرة أخرى، يخرج أدهم الشاب في رحلة ميدانية جديدة
وفي هذه المرة كانت باريس أرض الصراع
وكمغناطيس بشري، جذب أدهم الشاب إليه المتاعب
منذ اللحظة الأولى..
وعلى الرغم من صغر سنه، وعدم تمتعه بأية صفة رسمية، قاتل أدهم الشاب وربما لأول مرة في حياته
من أجل مصر، وخاض جولة عنيفة قاتلة
..جولة باريسية
*******
ارتسمت ابتسامة كبيرة، على شفتي رجل المخابرات المصري حسن، وهو يدلف إلى
حديقة منزل زميله صبري، ويلوح له بيده، قائلاً: حمداً لله على سلامتك يا
صديقي.. أبلغوني بأنك وأدهم قد عدتما من موسكو فأسرعت لألقي عليك التحية ابتسم صبري بدوره، وهو يقول: فقط؟ أطلق حسن ضحكة قصيرة، وهو يجذب مقعداً، ويجلس إلى جوار صبري مجيباً: إنه الفضول أيضاً يا صديقي العزيز ثم مال نحوه، وسأله في شغف شديد: هل كانت رحلته الميدانية الأولى ناجحة؟ صمت صبري بضع لحظات قبل أن يجيب: من الناحية العملية تطلع إليه حسن في دهشة، متسائلاً: ما الذي يعنيه هذا بالضبط؟ أجابه، بعد لحظة من التردد: لقد تورط أدهم في قتال غير مدروس، مع المخابرات السوفيتية في قلب موسكو هتف حسن في انبهار: وتمكن من العودة سالماً؟ هز رأسه في قوة، ثم استدرك في حماس: هذا رائع.. لقد واجه ابنك أشرس جهاز مخابرات في العالم، ونجح في الإفلات منه.. أي نجاح يفوق هذا؟ هز
صبري رأسه بدوره، وهو يقول في حزم: جهاز المخابرات السوفيتي، ليس أشرس
جهاز مخابرات في العالم.. والاتحاد السوفيتي نفسه مآله الانهيار في النهاية غمغم حسن مستنكراً: أي استنتاج عجيب هذا؟!.. كيف يمكن أن تنهار دولة عظمى، مثل الاتحاد السوفيتي؟ تنهد
صبري مجيباً: الاتحاد السوفيتي دولة بوليسية، تعتمد في بقائها بالدرجة
الأولى، على نظم أمن بوليسية قمعية عنيفة، ذات سلطات واسعة، تتجاوز حدود
حرية المواطن العادي، والتاريخ يؤكد لنا أن الدول التي تحيا على هذا النحو،
يكون مصيرها الحتمي هو الانهيار، طال الزمن أم قصر أدار حسن الجواب في رأسه قبل أن يومئ به، قائلاً: تحليل منطقي للغاية يا صديقي غمغم صبري: وربما تثبت الأيام القادمة صحته من عدمه قال
حسن وهو يعتدل في مقعده: بالتأكيد.. ولكن يبقى سؤال.. لو أن المخابرات
السوفيتية ليست أكثر أجهزة المخابرات خطورة، من وجهة نظرك، فما الجهاز الذي
يستحق هذه الصفة؟! المخابرات الأمريكية؟ هز صبري رأسه نفياً، وقال: كلا.. الإسرائيلية انعقد حاجبا حسن في ضيق، وهو يقول: ولكننا كثيراً ما تفوقنا عليها
أشار صبري بسبابته، قائلاً: بالضبط.. ولكن هذا
لا يمنع أنهم الأخطر، ولم أقل الأقوى.. ربما لأنهم لا يعتمدون ولو لمحة من
الأخلاقيات والقيم في سبيل الفوز بأية مواجهة، ولا يؤمنون حتى بها، عندما
يتعلق الأمر بالمكسب أو الخسارة، وليس لديهم أدنى مانع في اللجوء إلى
أقذر الوسائل إذا لزم الأمر.. وهذا ما يجعلهم الأخطر تطلع إليه حسن بضع لحظات، ثم تراجع ليسند ظهره على مقعده، وهو يقول في اهتمام: وهل تنوي دفع ابنك إلى مواجهتهم يوماً؟ صمت صبري لحظات، قبل أن يجيب: ليس في هذه المرحلة ولوهلة،
تصور حسن أنه سيكتفي بهذا القول، إلا أنه لم يلبث أن استدرك في حزم: أنا
واثق في أنه سيصطدم بهم حتماً، لو مضت الأمور في مسارها الطبيعي وستكون
بينه وبينهم صولات وجولات عنيفة، وأنا أعده طوال الوقت لهذا الصدام ولكنني
أعتقد أن الوقت لم يحن لهذا، فـأدهم لم يبلغ ما تمنيته بعد سأله حسن في خفوت: ومتى سيبلغه في رأيك؟ صمت صبري طويلاً هذه المرة، وشرد بصره بعيداً، قبل أن يجيب: من يدري يا صديقي؟!.. من يدري؟
*******
احترم حسن صمته، وبقي ساكناً
في مقعده، يتطلع بنظرة خاوية حتى خرج من شروده فجأة، والتفت إليه قائلاً:
بالمناسبة.. هناك شاب يقيم في موسكو ويدرس الفن في معاهدها، ولكن الظروف
جمعتني به مصادفة وكشفت أنه أبرع مقلد رأته عيناي، ولديه موهبة مدهشة، في
هذا المضمار تمتم حسن: مقلد؟ ابتسم
صبري قائلاً: مزور، لو أردت المزيد من الوضوح، لكن المهم أنني لا أؤمن
بالمصادفات وأعتقد أنها مجرد ترتيبات قدرية، لتقودنا إلى ما فيه فائدتنا،
وفائدة البلاد والعباد مال حسن نحوه، يسأله في اهتمام: ما الذي تريده بالضبط يا صبري؟ أجابه صبري في حزم: أريدك أن تجمع كل التحريات الممكنة عن ذلك الشاب، وتتأكد من خلو ملفه من أية تجاوزات أمنية أو قانونية سأله حسن: ثم ماذا؟ تطلع إليه مباشرة، وهو يجيب: ثم عليك أن ترسل إليه ترشيحاً رسمياً، للعمل في جهاز المخابرات العامة حدق فيه حسن بمنتهى الدهشة والاستنكار قبل أن يهتف: مزور؟!.. هل سنضم إلينا مزوراً يا صبري؟ ابتسم
صبري وهو يقول: سيتحول إلى مزور محترف بكل الأحوال، إما وهو يعمل
لحسابنا، أو حتى في الحياة العامة لأنه يمتلك موهبة لا يمكنه مقاومتها؛
لذا فالأفضل أن نتبنى نحن موهبته، ونغير منها إلى أقصى حد.. ولا تنسَ أننا
نحتاج كثيراً إلى أوراق، ومستندات وجوازات سفر وتصاريح وبطاقات شخصية،
ووجود مزور محترف وموهوب بين صفوفنا سيمنحنا قوة لا بأس بها في هذا
المضمار ظل حسن يتطلع إليه بضع لحظات في صمت، ثم لم يلبث أن ابتسم مغمغماً: كم تبهرني بنظرتك البعيدة للأمور ياصبري؟ ابتسم صبري وغمغم: أرسل إليه الاستدعاء ياحسن أجابه في حماس: سأفعل بالتأكيد، فور انتهاء التحريات الرسمية وصمت لحظة، ثم تساءل في اهتمام شديد: ولكن أين أدهم؟!.. ألم يعد معك؟ ابتسم صبري مجيباً: أدهم سبقني إلى هنا، ولقد جعلته يكتب تقريراً بكل ما واجهه في موسكو ثم قررت أن أنقله إلى مواجهة ميدانية جديدة سأله حسن في اهتمام: إلى أين ستسافرون هذه المرة؟ صمت
صبري لحظات، استعاد خلالها شروده، قبل أن يقول: لن نسافر معه هذه المرة..
أدهم يحتاج إلى الانتقال إلى مرحلة جديدة.. لقد سافر وحده في رحلته
الميدانية الجديدة، فعليه أن يعتاد المواجهة منفرداً التقى حاجبا حسن وهو يتساءل: أليست هذه الخطوة سابقة لأوانها؟ صمت صبري بضع لحظات أخرى، ثم قال في حزم: كلا
*******
في نفس اللحظة، التي نطق فيها
عبارته كان أدهم الشاب يحاول الاسترخاء في مقعده داخل الطائرة المصرية،
المتجهة إلى باريس، وهو يراجع في ذهنه تلك الخريطة، التي يصر والده على أن
يحفظها عن ظهر قلب، قبل أن يسافر إلى أية دولة كانت
نظرية صبري أن رجل المخابرات الناجح، لابد وأن يفهم ميدان المواجهة جيداً
وأن يلم بكل طرقاته ومداخله ومخارجه قبل أن يضع قدميه فيه، حتى لا يمكن
مباغتته بأي حال من الأحوال تحت أية ظروف وفي
شيء من التوتر أغلق أدهم عينيه، وراح يراجع الخريطة في ذهنه، و.. وفجأة،
التقطت أذناه حديثاً هامساً، بين رجلين يجلسان في المقعدين خلفه مباشرة
لم يكن من عادته أن ينصت إلى أحاديث الآخرين،
ولكن ما جذب انتباهه هذه المرة هو الحديث الهامس الذي كان يدور بلغة أصر
والده على تلقينه إياها، منذ نعومة أظفاره بالعبرية.. وكان مضمون الحديث بالغ الخطورة إلى أقصى حد
*******
على الرغم من تظاهره بالنوم،
وإرهافه سمعَه إلى أقصى حد، لم يستطع أدهم أن يلتقط كافة تفاصيل الحديث
الهامس بين الرجلين، اللذين لم ير وجهيهما بعد التقط فقط كلمات توحي بخطورة الأمر السفارة المصرية... اغتيال.. وزير الخارجية.. مصر وبسرعة راجع أدهم كل المعلومات التي طالعها في الصحف وفي وسائل الإعلام في الآونة الأخيرة وفهم ما يعنيه هذا الحديث أو هذا ما خُيِّل إليه هناك
مؤامرة لاغتيال وزير الخارجية المصري، في السفارة المصرية في باريس.. لقد
أذاعت وسائل الإعلام، ونشرت الصحف أن وزير الخارجية المصري سيسافر إلى
باريس لحضور مؤتمر وزراء خارجية دول البحر الأبيض المتوسط، وأن مصر ستستغل
هذا المؤتمر لكسب التأييد الأوربي، من موقفها تجاه الصراع المصري
الإسرائيلي، وضرورة تنفيذ قرار مجلس الأمن، الذي يطالب إسرائيل بالانسحاب
من سيناء، ومن كل الأراضي التي احتلتها، في الخامس من يونيو عام ألف
وتسعمائة وسبعة وستين ولأن الرجلين
كان يتحدثان بالعبرية، فقد افترض أدهم أنهما ينتميان لدولة إسرائيل التي
ربما تسعى لاغتيال وزير الخارجية المصري، حتى تفسد المؤتمر، وتبعد الأنظار
عن أهدافه وهذا أمر خطير خطير للغاية
*******
عندما توصل أدهم إلى هذا الاستنتاج، كان قائد
الطائرة يعلن استعدادها للهبوط في مطار أورلي في باريس، فنهض أدهم
متظاهراً بالاطمئنان على حقيبته الوحيدة، واختلس نظرة إلى الرجلين خلفه نظرة واحدة، نقلت مشاعره، من الشك إلى اليقين
فالرجلان كان يحملان ملامح يهودية واضحة، ولقد
رمقاه بنظرة صارمة متحفزة، عندما التفت إليهما، فأدار عينيه بعيداً عنهما
في بساطة، وعاد يجلس في مقعده، وهو يحفر ملامحهما في ذهنه جيداً ومرة أخرى أغلق عينيه، وهو يستعيد كلمات والده التزم بكل القواعد والقوانين يا أدهم، ولا تتجاوزهما إلا في حالة واحدة، .. أن يكون في هذا صالح مصر مصر يا أدهم.. مصر هي الأبقى وهي التي نمنحها حياتنا نفسها، دون أن نتردد لحظة واحدة.. ومن أجلها كل شيء يهون.. بلا استثناء راح يستعيد تلك الكلمات مرة وثانية.. وثالثة... لم يتوقف حتى هبطت الطائرة في باريس، وبدأ بالفعل إجراءات دخول عاصمة النور والجمال والفن وطوال
الوقت، كان يختلس النظر إلى الرجلين، اللذين تحركا وكأن كلا منهما وصل
منفرداً ولا علاقة له بالآخر، حتى خرج الجميع من المطار، فاستقل كل منهما
سيارة تاكسي مختلفة، ابتعدت بهما في اتجاهين مختلفين وبذاكرة
فوتوجرافية مدهشة، دوّن أدهم في رأسة أرقام السيارتين، وإن لم تشف ملامحه
عن أدنى اهتمام، وهو يستوقف سيارة ثالثة، ويطلب منها أن تنقله إلى فندق
ريتز حيث يفترض أن يقيم وفي طريقة إلى الفندق، راح عقله يرسم خطة العمل لم
تكن لديه الخبرة اللازمة، لوضع خطة محكمة لمواجهة عنيفة، مع رجال
المخابرات الإسرائيلية، ولكنه حاول أن يدرس خطته البسيطة، بأفضل وسيلة
ممكنة وعندما وصل إلى الفندق كان قد وضع الخطوط العريضة للخطة وفور دخوله حجرته بدأ أدهم الشاب يتحرك بمنتهى السرعة والخفة والنشاط والحيوية لقد
أخذ حقيبة صغيرة، مكونة من أدوات بسيطة، متوفرة في حجرته، وربط تلك
الحقيبة على وسطه، وارتدى قميصاً وسروالاً وسترة من اللون الأسود، ثم غادر
الفندق، والشمس توشك على المغيب وقبل أن تغلق المحال أبوابها دلف إلى متجر لألعاب الأطفال، وابتاع لعبة بسيطة من البلاستيك، أضافها إلى محتويات حقيبته الصغيرة ثم حان دور البحث المنظم ولأنه يحفظ خريطة باريس عن ظهر قلب، فقد استقل مترو الأنفاق إلى محطة الوسط التي تتجمع عندها كل سيارات التاكسي، بعد أن ينتهي عملها كان
يبدو غريباً، لافتاً للانتباه، وهو يسير وسط سيارات التاكسي، والسائقين
الذين راحوا يتطلعون إليه في حذر وقلق قبل أن يستوقفه أحدهم، ويسأله في
صرامة: ماذا تفعل هنا أيها الصبي؟ أجابه أدهم: معذرة يا عماه، ولكنني أبحث عن سيارتين أشك في أنني قد نسيت حقيبتي في إحداهما رمقه الرجل بنظرة شك، قبل أن يقول في خشونة: ولماذا لا تسأل عن حقيبتك في قسم المفقودات؟ هز
أدهم كتفيه، قائلاً: ربما أفعل، ولكن الواقع أنني فقدت قلادة صغيرة، في
إحدى السيارتين، ولما كانت لها قيمة عاطفية كبيرة بالنسبة لي، فقد أردت أن استوقفة الرجل في ضجر: فليكن.. أعطني الرقمين، وسأسأل سائقي السيارتين أملاه أدهم الرقمين، فارتفع حاجبا الرجل في دهشة، وهو يقول: أأنت واثق من الرقمين، أم أنك قد أخطأت في حفظهما، على نحو أو آخر؟ سأله أدهم في اهتمام: ولماذا تفترض هذا؟ أشار
الرجل بيده قائلاً: لأنه ليست لدينا سيارة تحمل أيا من الرقمين، ومن
المستحيل أن تكون لدينا؛ لأن سياراتنا كلها تحمل أرقاماً متسلسلة على نسق
واحد، وهذين الرقمين لا يمتان لأرقامنا بأدنى صلة وانعقد حاجبا أدهم الشاب في شدة فلقد كانت مفاجأة.. كبيرة..
*******
بدا صبري شديد القلق، وهو
يجري اتصاله بحجرة أدهم في ذلك الفندق في باريس للمرة الثالثة، دون أي
استجابة، حتى وضع السماعة في حنق، فسأله حسن الذي لم يغادر بعد: ألم يُجِب
بعد؟ هز صبري رأسه نفياً وقال: إنه
ليس في حجرته بالفندق، والتوقيت متأخر الآن في باريس والمحال التجارية
الآن كلها أغلقت وستخلو الطرقات بعد قليل، ولست أدري ما الذي يفعله خارج
فندقه في هذه الساعة ابتسم حسن
قائلاً: يتجول في باريس بالتأكيد.. أنت تعرف ابنك أكثر مني.. لن يحتمل
إضاعة لحظة واحدة في حجرة مغلقة، وأمامه باريس على بعد أمتار قليلة.. لو
أنك في موضعه، لقضيت الليل كله في استكشاف عاصمة النور انعقد حاجبا صبري وهو يغمغم: طرقات باريس شديدة الخطر في الليل أجابه في حسم: ليس مع شاب مثل أدهم تنهد صبري مغمغماً: ربما التقط
نفساً عميقاً، في محاولة لتهدئة أعصابه، قبل أن يسأل حسن في اهتمام شديد:
قل لي.. هل تمت جميع إجراءات تأمين وزير الخارجية في باريس؟ أومأ
حسن برأسه إيجاباً، وقال: اطمئن.. سيادة الوزير سيقضي ليلته في مبنى
السفارة، في قلب العاصمة الفرنسية، وفي الصباح سيصحبه ثلاثة من رجال الأمن
المسلحين إلى مقر المؤتمر في سيارة مصفحة خاصة لا يمكن اقتحامها بسهولة شرد صبري ببصره مرة أخرى، مغمغماً: أتعشم هذا ابتسم حسن وهو يسأله: ألا تطمئن أبداً لنظم الأمن؟ أجابه
صبري في رصانة حاسمة: إنني واثق من أن الجميع قد درس نظام الأمن، على أدق
وأكمل صورة ممكنة، وأن كل الإجراءات التأمينية سيتم اتباعها على أكمل
وجه، ولكن هناك قاعدة أحرص دوماً على تلقينها لأدهم من شدة إيماني بها غمغم حسن في اهتمام: وهي؟
أشار صبري بسبابته مجيباً: كل نظام أمن مهما
بلغت دقته، أو بلغ إحكامه يحوي حتماً ثغرة ما.. ثغرة صغيرة للغاية، لم
ينتبه إليها أحد أو ربما لم يشعر بأهميتها أحد، ولكن لو أنك درست نظام
الأمن بدقة، فستعثر عليها، وعندئذ لن يكون من العسير أن تنفذ منها تمتم حسن في توتر، وقد بدأت ثقته تهتز: مجرد نظرية هز صبري رأسه قائلاً في حزم: بل حقيقة يا صديقي.. حقيقة تمثل أهم ما في عالمنا.. جِد الثغرة وستربح المعركة.. حتماً وتضاعف قلق حسن، على الرغم من أنه لم يكن يدرك كم هي قاعدة صحيحة في هذه العملية بالذات فخطة تأمين الوزير كانت تحوي بالفعل ثغرة ثغرة كبيرة.. وخطيرة
*******
.. يـ تـ بـ ـع
أدهم صبري.. ضابط مخابرات مصري في الخامسة والثلاثين من عمره، يرمز إليه بالرمز ن-1
حرف النون، يعني أنه فئة
نادرة، أما الرقم واحد، فيعني أنه الأوَّل من نوعه؛ هذا لأن أدهم صبري رجل
من نوع خاص.. فهو يجيد استخدام جميع أنواع الأسلحة، من المسدس إلى قاذفة
القنابل.. وكل فنون القتال، من المصارعة وحتى التايكوندو
هذا بالإضافة إلى إجادته
التامة لست لغات حيَّة، وبراعته الفائقة في استخدام أدوات التنكُّر
والمكياج، وقيادة السيارات والطائرات، وحتى الغواصات، إلى جانب مهارات
أخرى متعدِّدة
لقد أجمع الكل على أنه من
المستحيل أن يجيد رجل واحد، في سن أدهم صبري، كل هذه المهارات.. ولكن
أدهم صبري حقَّق هذا المستحيل، واستحق عن جدارة ذلك اللقب، الذي أطلقته
عليه إدارة المخابرات العامة
لقب رجل المستحيل..
*******
مرة أخرى، يخرج أدهم الشاب في رحلة ميدانية جديدة
وفي هذه المرة كانت باريس أرض الصراع
وكمغناطيس بشري، جذب أدهم الشاب إليه المتاعب
منذ اللحظة الأولى..
وعلى الرغم من صغر سنه، وعدم تمتعه بأية صفة رسمية، قاتل أدهم الشاب وربما لأول مرة في حياته
من أجل مصر، وخاض جولة عنيفة قاتلة
..جولة باريسية
*******
ارتسمت ابتسامة كبيرة، على شفتي رجل المخابرات المصري حسن، وهو يدلف إلى
حديقة منزل زميله صبري، ويلوح له بيده، قائلاً: حمداً لله على سلامتك يا
صديقي.. أبلغوني بأنك وأدهم قد عدتما من موسكو فأسرعت لألقي عليك التحية ابتسم صبري بدوره، وهو يقول: فقط؟ أطلق حسن ضحكة قصيرة، وهو يجذب مقعداً، ويجلس إلى جوار صبري مجيباً: إنه الفضول أيضاً يا صديقي العزيز ثم مال نحوه، وسأله في شغف شديد: هل كانت رحلته الميدانية الأولى ناجحة؟ صمت صبري بضع لحظات قبل أن يجيب: من الناحية العملية تطلع إليه حسن في دهشة، متسائلاً: ما الذي يعنيه هذا بالضبط؟ أجابه، بعد لحظة من التردد: لقد تورط أدهم في قتال غير مدروس، مع المخابرات السوفيتية في قلب موسكو هتف حسن في انبهار: وتمكن من العودة سالماً؟ هز رأسه في قوة، ثم استدرك في حماس: هذا رائع.. لقد واجه ابنك أشرس جهاز مخابرات في العالم، ونجح في الإفلات منه.. أي نجاح يفوق هذا؟ هز
صبري رأسه بدوره، وهو يقول في حزم: جهاز المخابرات السوفيتي، ليس أشرس
جهاز مخابرات في العالم.. والاتحاد السوفيتي نفسه مآله الانهيار في النهاية غمغم حسن مستنكراً: أي استنتاج عجيب هذا؟!.. كيف يمكن أن تنهار دولة عظمى، مثل الاتحاد السوفيتي؟ تنهد
صبري مجيباً: الاتحاد السوفيتي دولة بوليسية، تعتمد في بقائها بالدرجة
الأولى، على نظم أمن بوليسية قمعية عنيفة، ذات سلطات واسعة، تتجاوز حدود
حرية المواطن العادي، والتاريخ يؤكد لنا أن الدول التي تحيا على هذا النحو،
يكون مصيرها الحتمي هو الانهيار، طال الزمن أم قصر أدار حسن الجواب في رأسه قبل أن يومئ به، قائلاً: تحليل منطقي للغاية يا صديقي غمغم صبري: وربما تثبت الأيام القادمة صحته من عدمه قال
حسن وهو يعتدل في مقعده: بالتأكيد.. ولكن يبقى سؤال.. لو أن المخابرات
السوفيتية ليست أكثر أجهزة المخابرات خطورة، من وجهة نظرك، فما الجهاز الذي
يستحق هذه الصفة؟! المخابرات الأمريكية؟ هز صبري رأسه نفياً، وقال: كلا.. الإسرائيلية انعقد حاجبا حسن في ضيق، وهو يقول: ولكننا كثيراً ما تفوقنا عليها
أشار صبري بسبابته، قائلاً: بالضبط.. ولكن هذا
لا يمنع أنهم الأخطر، ولم أقل الأقوى.. ربما لأنهم لا يعتمدون ولو لمحة من
الأخلاقيات والقيم في سبيل الفوز بأية مواجهة، ولا يؤمنون حتى بها، عندما
يتعلق الأمر بالمكسب أو الخسارة، وليس لديهم أدنى مانع في اللجوء إلى
أقذر الوسائل إذا لزم الأمر.. وهذا ما يجعلهم الأخطر تطلع إليه حسن بضع لحظات، ثم تراجع ليسند ظهره على مقعده، وهو يقول في اهتمام: وهل تنوي دفع ابنك إلى مواجهتهم يوماً؟ صمت صبري لحظات، قبل أن يجيب: ليس في هذه المرحلة ولوهلة،
تصور حسن أنه سيكتفي بهذا القول، إلا أنه لم يلبث أن استدرك في حزم: أنا
واثق في أنه سيصطدم بهم حتماً، لو مضت الأمور في مسارها الطبيعي وستكون
بينه وبينهم صولات وجولات عنيفة، وأنا أعده طوال الوقت لهذا الصدام ولكنني
أعتقد أن الوقت لم يحن لهذا، فـأدهم لم يبلغ ما تمنيته بعد سأله حسن في خفوت: ومتى سيبلغه في رأيك؟ صمت صبري طويلاً هذه المرة، وشرد بصره بعيداً، قبل أن يجيب: من يدري يا صديقي؟!.. من يدري؟
*******
احترم حسن صمته، وبقي ساكناً
في مقعده، يتطلع بنظرة خاوية حتى خرج من شروده فجأة، والتفت إليه قائلاً:
بالمناسبة.. هناك شاب يقيم في موسكو ويدرس الفن في معاهدها، ولكن الظروف
جمعتني به مصادفة وكشفت أنه أبرع مقلد رأته عيناي، ولديه موهبة مدهشة، في
هذا المضمار تمتم حسن: مقلد؟ ابتسم
صبري قائلاً: مزور، لو أردت المزيد من الوضوح، لكن المهم أنني لا أؤمن
بالمصادفات وأعتقد أنها مجرد ترتيبات قدرية، لتقودنا إلى ما فيه فائدتنا،
وفائدة البلاد والعباد مال حسن نحوه، يسأله في اهتمام: ما الذي تريده بالضبط يا صبري؟ أجابه صبري في حزم: أريدك أن تجمع كل التحريات الممكنة عن ذلك الشاب، وتتأكد من خلو ملفه من أية تجاوزات أمنية أو قانونية سأله حسن: ثم ماذا؟ تطلع إليه مباشرة، وهو يجيب: ثم عليك أن ترسل إليه ترشيحاً رسمياً، للعمل في جهاز المخابرات العامة حدق فيه حسن بمنتهى الدهشة والاستنكار قبل أن يهتف: مزور؟!.. هل سنضم إلينا مزوراً يا صبري؟ ابتسم
صبري وهو يقول: سيتحول إلى مزور محترف بكل الأحوال، إما وهو يعمل
لحسابنا، أو حتى في الحياة العامة لأنه يمتلك موهبة لا يمكنه مقاومتها؛
لذا فالأفضل أن نتبنى نحن موهبته، ونغير منها إلى أقصى حد.. ولا تنسَ أننا
نحتاج كثيراً إلى أوراق، ومستندات وجوازات سفر وتصاريح وبطاقات شخصية،
ووجود مزور محترف وموهوب بين صفوفنا سيمنحنا قوة لا بأس بها في هذا
المضمار ظل حسن يتطلع إليه بضع لحظات في صمت، ثم لم يلبث أن ابتسم مغمغماً: كم تبهرني بنظرتك البعيدة للأمور ياصبري؟ ابتسم صبري وغمغم: أرسل إليه الاستدعاء ياحسن أجابه في حماس: سأفعل بالتأكيد، فور انتهاء التحريات الرسمية وصمت لحظة، ثم تساءل في اهتمام شديد: ولكن أين أدهم؟!.. ألم يعد معك؟ ابتسم صبري مجيباً: أدهم سبقني إلى هنا، ولقد جعلته يكتب تقريراً بكل ما واجهه في موسكو ثم قررت أن أنقله إلى مواجهة ميدانية جديدة سأله حسن في اهتمام: إلى أين ستسافرون هذه المرة؟ صمت
صبري لحظات، استعاد خلالها شروده، قبل أن يقول: لن نسافر معه هذه المرة..
أدهم يحتاج إلى الانتقال إلى مرحلة جديدة.. لقد سافر وحده في رحلته
الميدانية الجديدة، فعليه أن يعتاد المواجهة منفرداً التقى حاجبا حسن وهو يتساءل: أليست هذه الخطوة سابقة لأوانها؟ صمت صبري بضع لحظات أخرى، ثم قال في حزم: كلا
*******
في نفس اللحظة، التي نطق فيها
عبارته كان أدهم الشاب يحاول الاسترخاء في مقعده داخل الطائرة المصرية،
المتجهة إلى باريس، وهو يراجع في ذهنه تلك الخريطة، التي يصر والده على أن
يحفظها عن ظهر قلب، قبل أن يسافر إلى أية دولة كانت
نظرية صبري أن رجل المخابرات الناجح، لابد وأن يفهم ميدان المواجهة جيداً
وأن يلم بكل طرقاته ومداخله ومخارجه قبل أن يضع قدميه فيه، حتى لا يمكن
مباغتته بأي حال من الأحوال تحت أية ظروف وفي
شيء من التوتر أغلق أدهم عينيه، وراح يراجع الخريطة في ذهنه، و.. وفجأة،
التقطت أذناه حديثاً هامساً، بين رجلين يجلسان في المقعدين خلفه مباشرة
لم يكن من عادته أن ينصت إلى أحاديث الآخرين،
ولكن ما جذب انتباهه هذه المرة هو الحديث الهامس الذي كان يدور بلغة أصر
والده على تلقينه إياها، منذ نعومة أظفاره بالعبرية.. وكان مضمون الحديث بالغ الخطورة إلى أقصى حد
*******
على الرغم من تظاهره بالنوم،
وإرهافه سمعَه إلى أقصى حد، لم يستطع أدهم أن يلتقط كافة تفاصيل الحديث
الهامس بين الرجلين، اللذين لم ير وجهيهما بعد التقط فقط كلمات توحي بخطورة الأمر السفارة المصرية... اغتيال.. وزير الخارجية.. مصر وبسرعة راجع أدهم كل المعلومات التي طالعها في الصحف وفي وسائل الإعلام في الآونة الأخيرة وفهم ما يعنيه هذا الحديث أو هذا ما خُيِّل إليه هناك
مؤامرة لاغتيال وزير الخارجية المصري، في السفارة المصرية في باريس.. لقد
أذاعت وسائل الإعلام، ونشرت الصحف أن وزير الخارجية المصري سيسافر إلى
باريس لحضور مؤتمر وزراء خارجية دول البحر الأبيض المتوسط، وأن مصر ستستغل
هذا المؤتمر لكسب التأييد الأوربي، من موقفها تجاه الصراع المصري
الإسرائيلي، وضرورة تنفيذ قرار مجلس الأمن، الذي يطالب إسرائيل بالانسحاب
من سيناء، ومن كل الأراضي التي احتلتها، في الخامس من يونيو عام ألف
وتسعمائة وسبعة وستين ولأن الرجلين
كان يتحدثان بالعبرية، فقد افترض أدهم أنهما ينتميان لدولة إسرائيل التي
ربما تسعى لاغتيال وزير الخارجية المصري، حتى تفسد المؤتمر، وتبعد الأنظار
عن أهدافه وهذا أمر خطير خطير للغاية
*******
عندما توصل أدهم إلى هذا الاستنتاج، كان قائد
الطائرة يعلن استعدادها للهبوط في مطار أورلي في باريس، فنهض أدهم
متظاهراً بالاطمئنان على حقيبته الوحيدة، واختلس نظرة إلى الرجلين خلفه نظرة واحدة، نقلت مشاعره، من الشك إلى اليقين
فالرجلان كان يحملان ملامح يهودية واضحة، ولقد
رمقاه بنظرة صارمة متحفزة، عندما التفت إليهما، فأدار عينيه بعيداً عنهما
في بساطة، وعاد يجلس في مقعده، وهو يحفر ملامحهما في ذهنه جيداً ومرة أخرى أغلق عينيه، وهو يستعيد كلمات والده التزم بكل القواعد والقوانين يا أدهم، ولا تتجاوزهما إلا في حالة واحدة، .. أن يكون في هذا صالح مصر مصر يا أدهم.. مصر هي الأبقى وهي التي نمنحها حياتنا نفسها، دون أن نتردد لحظة واحدة.. ومن أجلها كل شيء يهون.. بلا استثناء راح يستعيد تلك الكلمات مرة وثانية.. وثالثة... لم يتوقف حتى هبطت الطائرة في باريس، وبدأ بالفعل إجراءات دخول عاصمة النور والجمال والفن وطوال
الوقت، كان يختلس النظر إلى الرجلين، اللذين تحركا وكأن كلا منهما وصل
منفرداً ولا علاقة له بالآخر، حتى خرج الجميع من المطار، فاستقل كل منهما
سيارة تاكسي مختلفة، ابتعدت بهما في اتجاهين مختلفين وبذاكرة
فوتوجرافية مدهشة، دوّن أدهم في رأسة أرقام السيارتين، وإن لم تشف ملامحه
عن أدنى اهتمام، وهو يستوقف سيارة ثالثة، ويطلب منها أن تنقله إلى فندق
ريتز حيث يفترض أن يقيم وفي طريقة إلى الفندق، راح عقله يرسم خطة العمل لم
تكن لديه الخبرة اللازمة، لوضع خطة محكمة لمواجهة عنيفة، مع رجال
المخابرات الإسرائيلية، ولكنه حاول أن يدرس خطته البسيطة، بأفضل وسيلة
ممكنة وعندما وصل إلى الفندق كان قد وضع الخطوط العريضة للخطة وفور دخوله حجرته بدأ أدهم الشاب يتحرك بمنتهى السرعة والخفة والنشاط والحيوية لقد
أخذ حقيبة صغيرة، مكونة من أدوات بسيطة، متوفرة في حجرته، وربط تلك
الحقيبة على وسطه، وارتدى قميصاً وسروالاً وسترة من اللون الأسود، ثم غادر
الفندق، والشمس توشك على المغيب وقبل أن تغلق المحال أبوابها دلف إلى متجر لألعاب الأطفال، وابتاع لعبة بسيطة من البلاستيك، أضافها إلى محتويات حقيبته الصغيرة ثم حان دور البحث المنظم ولأنه يحفظ خريطة باريس عن ظهر قلب، فقد استقل مترو الأنفاق إلى محطة الوسط التي تتجمع عندها كل سيارات التاكسي، بعد أن ينتهي عملها كان
يبدو غريباً، لافتاً للانتباه، وهو يسير وسط سيارات التاكسي، والسائقين
الذين راحوا يتطلعون إليه في حذر وقلق قبل أن يستوقفه أحدهم، ويسأله في
صرامة: ماذا تفعل هنا أيها الصبي؟ أجابه أدهم: معذرة يا عماه، ولكنني أبحث عن سيارتين أشك في أنني قد نسيت حقيبتي في إحداهما رمقه الرجل بنظرة شك، قبل أن يقول في خشونة: ولماذا لا تسأل عن حقيبتك في قسم المفقودات؟ هز
أدهم كتفيه، قائلاً: ربما أفعل، ولكن الواقع أنني فقدت قلادة صغيرة، في
إحدى السيارتين، ولما كانت لها قيمة عاطفية كبيرة بالنسبة لي، فقد أردت أن استوقفة الرجل في ضجر: فليكن.. أعطني الرقمين، وسأسأل سائقي السيارتين أملاه أدهم الرقمين، فارتفع حاجبا الرجل في دهشة، وهو يقول: أأنت واثق من الرقمين، أم أنك قد أخطأت في حفظهما، على نحو أو آخر؟ سأله أدهم في اهتمام: ولماذا تفترض هذا؟ أشار
الرجل بيده قائلاً: لأنه ليست لدينا سيارة تحمل أيا من الرقمين، ومن
المستحيل أن تكون لدينا؛ لأن سياراتنا كلها تحمل أرقاماً متسلسلة على نسق
واحد، وهذين الرقمين لا يمتان لأرقامنا بأدنى صلة وانعقد حاجبا أدهم الشاب في شدة فلقد كانت مفاجأة.. كبيرة..
*******
بدا صبري شديد القلق، وهو
يجري اتصاله بحجرة أدهم في ذلك الفندق في باريس للمرة الثالثة، دون أي
استجابة، حتى وضع السماعة في حنق، فسأله حسن الذي لم يغادر بعد: ألم يُجِب
بعد؟ هز صبري رأسه نفياً وقال: إنه
ليس في حجرته بالفندق، والتوقيت متأخر الآن في باريس والمحال التجارية
الآن كلها أغلقت وستخلو الطرقات بعد قليل، ولست أدري ما الذي يفعله خارج
فندقه في هذه الساعة ابتسم حسن
قائلاً: يتجول في باريس بالتأكيد.. أنت تعرف ابنك أكثر مني.. لن يحتمل
إضاعة لحظة واحدة في حجرة مغلقة، وأمامه باريس على بعد أمتار قليلة.. لو
أنك في موضعه، لقضيت الليل كله في استكشاف عاصمة النور انعقد حاجبا صبري وهو يغمغم: طرقات باريس شديدة الخطر في الليل أجابه في حسم: ليس مع شاب مثل أدهم تنهد صبري مغمغماً: ربما التقط
نفساً عميقاً، في محاولة لتهدئة أعصابه، قبل أن يسأل حسن في اهتمام شديد:
قل لي.. هل تمت جميع إجراءات تأمين وزير الخارجية في باريس؟ أومأ
حسن برأسه إيجاباً، وقال: اطمئن.. سيادة الوزير سيقضي ليلته في مبنى
السفارة، في قلب العاصمة الفرنسية، وفي الصباح سيصحبه ثلاثة من رجال الأمن
المسلحين إلى مقر المؤتمر في سيارة مصفحة خاصة لا يمكن اقتحامها بسهولة شرد صبري ببصره مرة أخرى، مغمغماً: أتعشم هذا ابتسم حسن وهو يسأله: ألا تطمئن أبداً لنظم الأمن؟ أجابه
صبري في رصانة حاسمة: إنني واثق من أن الجميع قد درس نظام الأمن، على أدق
وأكمل صورة ممكنة، وأن كل الإجراءات التأمينية سيتم اتباعها على أكمل
وجه، ولكن هناك قاعدة أحرص دوماً على تلقينها لأدهم من شدة إيماني بها غمغم حسن في اهتمام: وهي؟
أشار صبري بسبابته مجيباً: كل نظام أمن مهما
بلغت دقته، أو بلغ إحكامه يحوي حتماً ثغرة ما.. ثغرة صغيرة للغاية، لم
ينتبه إليها أحد أو ربما لم يشعر بأهميتها أحد، ولكن لو أنك درست نظام
الأمن بدقة، فستعثر عليها، وعندئذ لن يكون من العسير أن تنفذ منها تمتم حسن في توتر، وقد بدأت ثقته تهتز: مجرد نظرية هز صبري رأسه قائلاً في حزم: بل حقيقة يا صديقي.. حقيقة تمثل أهم ما في عالمنا.. جِد الثغرة وستربح المعركة.. حتماً وتضاعف قلق حسن، على الرغم من أنه لم يكن يدرك كم هي قاعدة صحيحة في هذه العملية بالذات فخطة تأمين الوزير كانت تحوي بالفعل ثغرة ثغرة كبيرة.. وخطيرة
*******
.. يـ تـ بـ ـع