غريب
كيف ترحل هذه الطيور الصغيرة لمسافات بعيدة بحثا عن الدفء. رحيلها نحو
الجنوب امر ظل يحيرني كثيرا... احتياجها لهذا الفضاء الحار يماثل احتياجنا
لدفء الاسرة.. كان سطح بيتنا احدى محطات هذه الطيور المهاجرة... فأمي كانت
تعمل جاهدة على اطعامها من بقايا نخالة القمح و فتات الخبز. حتى رحيلها بعد
استراحتها كان غريبا. فيه انتظام عجيب.. نحن كذلك كنا نرحل الى البادية
بعد انتهاء الموسم الدراسي لزيارة اسرة عمي. كنا نعدو. نسبح في السواقي و
في مجاري المياه. كان من الصعب ضبطنا في هذا الفضاء الواسع. نأكل وقوفا.
الثياب التي كنا نرتديها تأخذ توزيعا اخر. كنا نمتلئ من العدو كمن يخزن
ومضات حريته وفي الليل ننام. ندخل في سبات عميق لا يكسر جداره الا صياح
الديكة معلنة انبلاج صبح جديد.. رحيلنا تلك السنة كان مختلفا لان المناسبة
كانت زواج ابنة عمي. كانت استعدادتنا مختلفة و تنبيهات امي صارمة.. و كنا
نعد الايام عد البخيل لامواله. وصل اليوم الموعود. سافرنا ضاربين عرض
الحائط بكل توصيات امي. كانت النساء يحضرن للزفاف.. يقمن بتنقية القمح
الطري و صنع الحلويات و طلاء البيت و رف جهاز العروس. و تحضير كل اللوازم
يدوي.. كان البيت يعج بالزوار المهنئين... حاملين هدايا ملففة سيتم الكشف
عنها قبل مغادرة العروس لمعرفة قدر اهل العروس عندهم. كانت الاهازيج
المنبعثة من فناء البيت مصدر فرح شديد. كنا نرقص و نتخطف الحلويات من
الصحون.. نأكل باليمين و الشمال. فوضى عارمة لا يستطيع الاهل ضبطها امام
الضيوف. و رحلت العروس الى بيتها ... كانت تبكي لانها ستغادر دفء والديها
في اتجاه المجهول... سترحل لبناء عش جديد و دفء جديد.. كان الرحيل مختلفا
لان الوجهة معروفة.. و سنة الحياة تقتضي ذلك. في الغد توجهنا برمتنا نحوبيت
العريس لحضور ليلة البرزة... حاملين هدايا للعروس وما لذ و طاب منالحلويات
و المأكولات.. مرتدين اجمل الثياب المخصصة لمثل هذه المناسبات.... و لم
نقصر بدورنا في احداث الجلبة المعتادة حتى في بيت اهل العريس..... كان عطر
النساء يشبع الجو برائحة زكية.. حفيف حليهم البراقة و قفاطينهم البراقة
المتماوجة و عيونهم المليئة كحلا و ايديهم المخضبة بالحناء اروع سمفونية
عزفت ترنيماتها يومها. كان الدفء غريبا.. دفء كسره صراخ غريب كان يقترب
شيئا فشيئا. توقف الزمن لحظتها ولم يكن الا دوي الصراخ يعلو... كان صراخ
امرأة يعلن عن رحيل من نوع آخر... تحول البيت الى موكب جنائزي.. نواح و
صراخ و وجوه مشدوهة من هول الخبر... لقد انتحر ابن عمي اخ العروس.... كانت
الطرقات تغتالنا و نحن نسرع الخطى نحو البيت لنصل بعد زمن خلناه دهرا. كانت
جثة ابن عمي معلقة يهزها الريح هزا خفيفا ... كان رجال الدرك يحيطون
بالمكان.. و الناس يتوافدون من كل مكان للتأكد من الحدث. كان الصراخ يعلو
المكان كان صراخا حتى الصمم. كانت زوجة عمي تشق على صدرها ضاربة بكل
قواها.. كانت تترنح ترنح الديك في رقصته الجنائزية الاخيرة بعد ذبحه.. كانت
لا تقوى على الصراخ... كانت تهمهم بكلمات غير مفهومة... كان رحيلا من نوع
آخر. بعد استكمال الاجراءات حملت الجثة الى المرآب... ورحلت شمس ذلك اليوم
الى مغيبها الاخير.. رحلت هى الاخرى لادخل عتمة الخوف بلا هوادة. و ليتحطم
ما تبقى من احلامي الطفولية. و دخلت في نوبات صراخي المعتادة.. كنت اشد على
عنق امي بقوةاخنقها.. اتصبب عرقا و كانت كالذاهلة لا تحرك ساكنا.كان سواد
ذلك الليل يجثم على صدري و تحول صراخي الى انين مبحوح.عدنا ادراجنا الى
البيت ونمت يومها نوما عميقا... كان رحيلا الى عالمي الوردي الموشح
بالسواد. عجبا امر هذا الرحيل.فحتى في رحيلنا نحو النسيان يجثم السؤال كيف
السبيل الى التذكر ان كنا لا نقوى اصلا على النسيان...
كيف ترحل هذه الطيور الصغيرة لمسافات بعيدة بحثا عن الدفء. رحيلها نحو
الجنوب امر ظل يحيرني كثيرا... احتياجها لهذا الفضاء الحار يماثل احتياجنا
لدفء الاسرة.. كان سطح بيتنا احدى محطات هذه الطيور المهاجرة... فأمي كانت
تعمل جاهدة على اطعامها من بقايا نخالة القمح و فتات الخبز. حتى رحيلها بعد
استراحتها كان غريبا. فيه انتظام عجيب.. نحن كذلك كنا نرحل الى البادية
بعد انتهاء الموسم الدراسي لزيارة اسرة عمي. كنا نعدو. نسبح في السواقي و
في مجاري المياه. كان من الصعب ضبطنا في هذا الفضاء الواسع. نأكل وقوفا.
الثياب التي كنا نرتديها تأخذ توزيعا اخر. كنا نمتلئ من العدو كمن يخزن
ومضات حريته وفي الليل ننام. ندخل في سبات عميق لا يكسر جداره الا صياح
الديكة معلنة انبلاج صبح جديد.. رحيلنا تلك السنة كان مختلفا لان المناسبة
كانت زواج ابنة عمي. كانت استعدادتنا مختلفة و تنبيهات امي صارمة.. و كنا
نعد الايام عد البخيل لامواله. وصل اليوم الموعود. سافرنا ضاربين عرض
الحائط بكل توصيات امي. كانت النساء يحضرن للزفاف.. يقمن بتنقية القمح
الطري و صنع الحلويات و طلاء البيت و رف جهاز العروس. و تحضير كل اللوازم
يدوي.. كان البيت يعج بالزوار المهنئين... حاملين هدايا ملففة سيتم الكشف
عنها قبل مغادرة العروس لمعرفة قدر اهل العروس عندهم. كانت الاهازيج
المنبعثة من فناء البيت مصدر فرح شديد. كنا نرقص و نتخطف الحلويات من
الصحون.. نأكل باليمين و الشمال. فوضى عارمة لا يستطيع الاهل ضبطها امام
الضيوف. و رحلت العروس الى بيتها ... كانت تبكي لانها ستغادر دفء والديها
في اتجاه المجهول... سترحل لبناء عش جديد و دفء جديد.. كان الرحيل مختلفا
لان الوجهة معروفة.. و سنة الحياة تقتضي ذلك. في الغد توجهنا برمتنا نحوبيت
العريس لحضور ليلة البرزة... حاملين هدايا للعروس وما لذ و طاب منالحلويات
و المأكولات.. مرتدين اجمل الثياب المخصصة لمثل هذه المناسبات.... و لم
نقصر بدورنا في احداث الجلبة المعتادة حتى في بيت اهل العريس..... كان عطر
النساء يشبع الجو برائحة زكية.. حفيف حليهم البراقة و قفاطينهم البراقة
المتماوجة و عيونهم المليئة كحلا و ايديهم المخضبة بالحناء اروع سمفونية
عزفت ترنيماتها يومها. كان الدفء غريبا.. دفء كسره صراخ غريب كان يقترب
شيئا فشيئا. توقف الزمن لحظتها ولم يكن الا دوي الصراخ يعلو... كان صراخ
امرأة يعلن عن رحيل من نوع آخر... تحول البيت الى موكب جنائزي.. نواح و
صراخ و وجوه مشدوهة من هول الخبر... لقد انتحر ابن عمي اخ العروس.... كانت
الطرقات تغتالنا و نحن نسرع الخطى نحو البيت لنصل بعد زمن خلناه دهرا. كانت
جثة ابن عمي معلقة يهزها الريح هزا خفيفا ... كان رجال الدرك يحيطون
بالمكان.. و الناس يتوافدون من كل مكان للتأكد من الحدث. كان الصراخ يعلو
المكان كان صراخا حتى الصمم. كانت زوجة عمي تشق على صدرها ضاربة بكل
قواها.. كانت تترنح ترنح الديك في رقصته الجنائزية الاخيرة بعد ذبحه.. كانت
لا تقوى على الصراخ... كانت تهمهم بكلمات غير مفهومة... كان رحيلا من نوع
آخر. بعد استكمال الاجراءات حملت الجثة الى المرآب... ورحلت شمس ذلك اليوم
الى مغيبها الاخير.. رحلت هى الاخرى لادخل عتمة الخوف بلا هوادة. و ليتحطم
ما تبقى من احلامي الطفولية. و دخلت في نوبات صراخي المعتادة.. كنت اشد على
عنق امي بقوةاخنقها.. اتصبب عرقا و كانت كالذاهلة لا تحرك ساكنا.كان سواد
ذلك الليل يجثم على صدري و تحول صراخي الى انين مبحوح.عدنا ادراجنا الى
البيت ونمت يومها نوما عميقا... كان رحيلا الى عالمي الوردي الموشح
بالسواد. عجبا امر هذا الرحيل.فحتى في رحيلنا نحو النسيان يجثم السؤال كيف
السبيل الى التذكر ان كنا لا نقوى اصلا على النسيان...