منتديات الحوت hoot
 ۩ فتـــــــــــــــاة الألـــــم ۩ Ouuo_u10


منتديات الحوت hoot
 ۩ فتـــــــــــــــاة الألـــــم ۩ Ouuo_u10

منتديات الحوت hoot
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات الحوت hootدخول


description ۩ فتـــــــــــــــاة الألـــــم ۩ Empty ۩ فتـــــــــــــــاة الألـــــم ۩

more_horiz
الســـــــــلام عليكم


كنتُ في السابعة من العمر عندما أدركت أنّي مختلفة !

لم
أكن أشبه أحداً من أطفال القرية الذين أراهم يقضون يومهم بين اللعب
والتسكع ..المتعة في عالمي كانت محرّمة.تعلّمت وفي سن مبكرة العيش وسط
قوانين لم أكن أرى داعٍ لها، لم أكن أفهم مغزاها..لكنّي علِمت -وبأصعب
الطرق- أنّي مجبرة على إطاعتها.في منزلي، كان على المرء أن يكون متيقظاً
طوال الوقت، العمل في صمت تام كان ينتهي عادة إلى النجاة والنوم بهدوء دون
أوجاع. في منزلي،عرفت معاني الخوف وأيقنت أنّه كلّ ما عليّ الإحساس به
لتجنّب العذاب..

هو..كان كلّ ما أخشاه !

لفظ
اسمه كان صعباً..لفظ اسم أبي لم يكن مسموحاً، لم يكن هذا قانوناً في بيتي
ولكنّي تعلّمته ضمنياً.أبي كان كلّ شيء..كان كلّ من يستحق أن يُرى، يُسمع
ويُطاع .جميع من في منزلي وُجِدوا ليمجّدوا ويشكروا جهده في إطعام
أفواهنا،في تعظيم هذا الكيان الذكوري القوي الذي يحول دون تشردنا،جوعنا و
ذلّنا.

لطالما أسمعتني
أمّي تلك العبارات،المال هو ما نحتاجه لنعيش..لقد حفظت ما يتوجب عليّ
الإيمان به غيباً رغم عدم ارتيادي المدرسة..هو قانون أبي : لا يجب على
الفتاة أن تتعلّم
!

حياتي
وسط ما كان يشبه الأسرة المتماسكة كانت العمل الدؤوب لجعل المنزل قصر
والدي، توفير الراحة لجسده الثمين المتعب حين عودته إلى الدار محمّلا برغيف
الخبز البارد وحزمة الخضراوات التالفة، كان أهم من حياتي نفسها ..

لم
أكن أراني ألتف إلى شيء أو أفكر في شيء طوال سويعات أيامي التي تكتحل أكثر
فأكثر كلّما صفق الباب برجله وولج الدّار عشيّة..التحلّق حول طاولة الطعام
كان أصعب جزء : صمتٌ تام كان يجوب غرفة المعيشة بعد أن يستقر جسد أبي على
الكرسي، لم تكن لنار المدفأة العتيقة في الزاوية الشمالية قدرة يوماً على
تهدئة أعصابي التي تتجلّد بمجرد كونه قريبا منّي.لا يقترب والدي منّي في
اليوم سوى مرّة.. وقت أكل ما أطهوه وأمّي.ولكن قد يفعلها ثانية ويدنو منّي
إذا ما خالفت أحد قوانينه حينها لن يكون قطعاً وقت الأكل..بل زمن الترويض
!!

محرّم
أن يمد أحد يده إلى الطبق قبله،محرّم أن يُصدر أحد صوت بلع أو مضغ سواه:
لا يجب أن يتجشأ شخص عداه.عندما يضع أبي ملعقته فعلى الجميع أن يتوقفوا عن
الأكل حتّى وإن لم يشبعوا..

طاولة
الأكل في منزلي مجرّد أربعة صحون: الصحن الأكبر لربّ العائلة وفيه حصة
الأسد وثلاث أخرى لي،لوالدتي وأختي الصغرى(جنى)..صدقاً، لم أرى يوماً صحني
ممتلئاً ولكنّي كنت أرى خلسة طبقه عامراً على الدوام ..هو قانون آخر لأبي:
من يعمل أكثر يأكل أكثر.

في
عالمي،كان ممنوعٌ إصدار صوت مزعج في حضرة ربّ العائلة، رفع الأطباق من
أمام أبي ثمّ غسلها في المطبخ الصغير المجاور كان صامتاً: كنت أبذل مجهوداً
يساوي المحال في عدم جعل الملاعق تصطك أو الصحون تحتك..

في
عالمي، الفترة الممتدة من الخامسة مساءاً وحتّى التاسعة ليلا - وهو وقت
تواجد أبي صاحياً- كانت فترة لحبس الأنفاس والتيقظ إلى آخر درجة..فالخطأ
يعني عادة شد الشعر،الصفع،أو الركل. الجلد بالسوط كعقوبة متقدمة كانت عندي
أرحم من تلك التي يعتبرها والدي أنجع وسيلة للتهذيب: جعلي أخفف ثيابي قدر
المستطاع ثمّ الخروج بي ليلا إلى المستودع القريب وجعلي أنام هناك وسط
البرد القارس وزمجرات وحوش الغابة..

ألفت الكدمات على وجهي وسائر جسدي مع مرور الزمن،أختى (جنى) كانت تملك حق تخفيض العقوبات كونها كسيحة لا تستطيع المشي، أحياناً كنت أغبطها على عجزها !!

أعتقد أنّ أبي كان يملك بعض الرحمة في قلبه،أظن ذلك !
كان يصفعها مراراً في موطن كان يجلدني فيه على نفس الخطأ.أظنه كان يشعر
بالذنب كونه من تسبّب لها بتلك الإعاقة الحركية : لقد أخضعها لتدريب الطاعة
الكاملة عندما كانت في سن الثالثة، قضت (جنى) ليلة شتاء باردة في المستودع
مما تسبب لها في حمى قوية أدّت إلى شلل أطرافها السفلية.لم يأخذها إلى
طبيب القرية
!! قانون أساسي لأبي الحنون : النساء لا يجب أن يذهبن إلى الطبيب..

أميّ..كانت
دائما تأخذ النصيب الأكبر من الإهانة لكنّي لم أرها يوماً تشتكي.في منزلي،
محرّم التعبير عن المشاعر بصوت مرتفع.الواقعية والخوف من الأذى هو كلّ ما
على المرء أن يتحلّى به.لطالما استيقظتُ صباحاً بعد ليلة شهدت تعنيف أبي
جسد أمي، لأجدها ملطخة بالكدمات..لم أجرأ يوماً على سؤالها عن حالها.كانت
هي تبتسم وفقط كأنّها تمرر تلك اللحظة التي كان من المفروض أن تعبر لي فيها عمّا يخالجها من حزن وقهر لتنتقل مباشرة إلى اللحظة التالية والتي تكون فيها قد أفرغت كلّ ما في قلبها لتبدأ مشوار أعمال المنزل التي تنتظرها.

استسلمت
أمّي له منذ وقت طويل.أحياناً كنت أخالها تحب كسره كلّ كرامتها..كأنّما
كانت تعذب نفسها بعد أن أخفقت في تزويده بصبي ذكر يعيل الأسرة صاحبة الفاه
المفتوح.فقدت الأمل في عودة كيان أمّي بعد أن صارت تخشاه في غيابه..صارت
تحرمني لحظات أختلي فيها بنفسي .بات كل ما يصدر عنها هو: والدك لا يحب
هذا..والدك ينزعج من هذا..والدك ..ووالدك..ووالدك
!!

خسرت شيئا من آدميتي مع مرور السنوات !

لم
أتعرّف أحداً آخر غير الشبح الذي يسكن أحشائي،أمّي التي باتت تشبه الموتى
وأختى المعاقة صاحبة العشرة ربيعاً.في دستور والدي: ممنوع زيارة الأقارب،
ممنوع الاختلاط بسكان القرية أو حتى إلقاء السلام عليهم ..في دستور والدي:
البيت هو كلّ ما على المرأة أن تعرفه..

أنا
الآن في الرابع عشرة من العمر، أصبحت يانعة رغم قلة أكلي ونومي .لكنّ
داخلي استمر في الجمود ورفض الكِبر الذي كان يعني زيادة المسؤوليات
..وزيادة القوانين
!!

لم أكن أشعر بالراحة والحرية طوال سنوات حياتي إلا وقت نومه..كان ذلك يشبه إلى حد كبير موته !!

كنت
أطلق العنان إلى مشاعري السجينة وتلك الخيالات التي تطرق عقلي.كنت أرى
نفسي فراشة متألقة تهيم وسط بساتين الزهر..تأكل ما تشاء من رحيق الرياحين
وتنظر إلى العالم من مكان لا يستطيع أحد أن يمسكها فيه . لم أُجِد الكتابة
لكنّي أجدت الرسم على أوراق كراسة التقطتها يوما خلسة بعد أن أوقعها أحد
الأولاد العائدين من المدرسة.كنت أمزق كلّ ورقة أرسمها ثم أخفيها وسط تجويف
ضمن شجرة البلوط شبه الملاصقة لمنزلي. كنت أظن أنّ أحداً ما سيراها ويعرف
بمعاناتي، كنت أظنه سيشفق عليّ ويواسيني بمجرّد النظر إليها...كنت بعبارة
أخرى، أشكي غريباً حال نفسي
!!

البكاء
بعد بزوغ فجر كلّ يوم كان سيكون أنسب شيء أقوم به لكنّه في الواقع لم يكن
خياراً متاحاً لأنّي نسيت معنى أن أبكي..صار قلبي يستحيل صخرة بعد إعلان
أشعة الشمس بداية نهار آخر..

نسيت من أنا، لكنّي لم ولن أنسى من هو !!

تكاثرت القوانين كما
الورم حتّى صارت سلاسل تقيّد أنفاسي، قسوة أبي تعاظمت مع تزايد طولي
واتساع جسمي.نظراته الموبخة كانت تلتهمني كلّ يوم على طاولة الأكل..كأنّه
كان يرى فمي قد اتسع كحال بطني.كأنّه يلوم أكلي خبزه الذابل وخضراوته عديمة
الرائحة. لقد كرّست وقتي لجعله يشهد عملي الدؤوب المضني لربّما يسامح
فمي،يغفر لبطني..

أبي صار وحشاً،بركاناً خامدا ينفجر لمجرّد رؤيتي.. لقد صرت أقضي معظم الليالي في المستودع.لم أشهد ومنذ أشهر عقوبة الصفع ! لقد أُلغيت لتحل محلها عقوبة الجلد والنفي..لقد تمّ إلغاء ذكر اسمي في المنزل أيضا.أبي مافتئ يدعوني بـ: أنتِ يا شرهة !

لم
أجد من أمّي سوى البسمات الباكية، لم أجد من أختي الصغيرة سوى نظرات خائفة
فارغة ضائعة تجعلني أودّ حملها والهرب بها بعيدا عن الجحيم..

بلغت
حدود المستحيل تلك الليلة التي عاد فيها والدي من عمله وحطّ قبالة الدار
كنسر هائج، عاد ليجلد أجنحتي ،يمزّقها للأبد.حمل سوطه بمجرّد أن داست قدماه
عتبة الدار..راح يضربنا جميعنا بكلّ ما أوتي من قوة وما إن سكت عنه الغضب
حتّى قال مخاطباً أميّ ممتعضاً:

"غداً،ستزف ابنتك الشرهة إلى عمدة القرية! لقد طلبها وأنا أعطيته"

أخفضت أمّي رأسها بخضوع كما
تفعل دائماً،(جنى) ادّعت الإغماء علّه يعتقها أمّا أنا فنظرت إليه دون أن
أشعر.كنت مندهشة إلى درجة جعلت عيناي غير قادرتين على أن تجفلا،رأسي عاجزاً
عن الانحناء له كما كان يفعل.. أبداً.

إنهال
عليّ ضربا وزجراً ،كان يطفؤ النار التي لا تزال متأججة داخله، ولكن ولأوّل
مرة في حياتي لم أشعر بحرقة السوط فوق لحمي..كلّ ما أحسست به هو عذاب
داخلي..ألم من نوع آخر لا يشبه ما خبِرته من أساليب التعذيب.كنت قد اعتدت
منه -وقتها- أيّ موقف يساويني فيه ببهائم الحضيرة لكنّي لم أكن مستعدة
قطعاً..للزواج وأنا في الرابع عشرة من عمري! للزواج من شيخ طاعن أجبره على
القبول كونه ربّ عمله!!

لم
أشعر بالحرية تلك الليلة رغم علمي بأنّه قد نام وفارق عالم الصحوة.لم أرى
نفسي فراشة، لم أرسم خيالي على ورق بل قضيت سويعات الظلام أفكّر في
الخلاص..

موعدي
كان الفجر،لملمت سرابيلي وصررتها بقطعة قماش..خطوت كاللصة صوب باب الدار
وهممت بالرحيل.لم أكن أعلم وجهتي ولكنّي كنت على يقين بأنّي خسرت كلّ
شيء ولم يتبقّى لديّ شيء أخاف فقده..علمت أنّ اللحظة التي مكنته فيها من
السير فوق إنسانيتي كانت اللحظة عينها التي فقدت فيها اسمي،كياني وآدميتي..

داهمتني
أمّي قبل فراري،كأنّها علمت ما أبغي.لم تنبت ببنت شفة،كلّ ما فعلته هو ضمة
قوية رفقة دموع صامتة بكماء مؤيّدة.فكّت أصابعي،وضعت فوق راحة يدي بضع
دراهم وأقصوصة ورق ثمّ أطلقت سراحي ..


اسمي هو (ميسم)، وتلك كانت بداية حكايتي..



يُتبع،،

description ۩ فتـــــــــــــــاة الألـــــم ۩ Emptyرد: ۩ فتـــــــــــــــاة الألـــــم ۩

more_horiz
الجزء الثاني: سيـــــــــاطٌ معنوية


كأنّ طيفه كان يلاحقني، ملامح وجهه الغاضب المنتقم سيطرت على حواسي وأنا أركض فارة !

كنت
أتخيّله وهو يستفيق من سباته كأسد هائج ،يكتشف أمر غيابي..يلبس زي الشيطان
،يحيل المنزل جحيماً ..لا أنكر أنّ جزءاً منّي أرادني وبشدة أن أعود
أدراجي، راح يذكّرني بأمّي وأختي، جزءٌ منّي كان يقول :" لابأس بعمدة
البلدة كزوج
!"

رحت أهرب من الضعف داخلي، شعرت بالخوف من الاتّساع الذي يلّفني..أخافني العالم خارج منزلي ..لكنّي لم أعُد !

وصلت محطة القطار القريبة من القرية.. كأنّ العناية الإلهية ساقتني إليها!لم أرى في حياتي كلّها ذلك الكم من البشر.جعلت أنظر إلى ثيابهم ،إلى أشكالهم ..إلى تصرّفات، شعرت بالخجل.. بالضيق.أحسست

بأنّي مخلوق مختلف، شيء أقل آدمية منهم.. ذاك ما راودني بعد أوّل لقاء لي بنني البشر !

انتبهت مُجبرة إلى ما أرتديه : إلى معطفي الواسع الممزق الذي يستر أصابعي وكلّ شيء فيَّ، إلى تنورتي المتهالكة، إلى حذائي الذي يُطلّ من خلاله إبهاما قدمي ..ارتفع يدي نحو خصلات شعري

الثائر ليطوّع ما استطاع منه عندما تحرّكت سيقان الواقفين فوق الرصيف فجأة متّجهة صوب بوابات القطار...

قلّدتهم..كدت
أطأ الدرج الحديدي المؤدي إلى داخل القطار عندما رفع رجلّ يرتدي زيّاً
أزرقاً يده في وجهي قائلا :" تذكرتكِ آنستي الصغيرة"

ارتقت ذراعاي لتصد ما خلته ضربة سيوجّهها نحوي، انسحب جسدي إلى الوراء ..مال بي جذعي فسقطت على الرصيف.

"هل أنتِ بخير؟" تكلّم صاحب القبعة ، دنا منّي..مدّ يده إليّ.

جعلت أزحف مبتعدة، شعرت بخوف شديد ..ملامحه لم تكن تشبه البتة تضاريس وجه أبي الوحشية.لكنّه ظل في نظري (ذكراً)..الذكر كان يعني في قاموسي شيئاً واحداً : السوط، الزجر..الإهانة.

"لا تخافي، لن أؤذيكِ..فقط أريد التأكّد من تذكرة سفرك، تبدين صغيرة على السفر بمفردك؟"

رحت أفتش داخل معطفي ، استخرجت كلّ ما أعطتني إياه أمّي من نقود.رفعتها في وجهه كأنّي أطلب الرحمة..

ابتسم ! كانت أول مرّة أرى فيها رجلا يبتسم. لم الكذب، شعرت بشيء ما يشرق داخلي..يدفّئ الرعب القارص الذي ألمّ بي.هل يبتسم الذكور؟

لم يأخذ سوى قطعة نقدية واحدة..سار نحو بناية قزمة ذات واجهة زجاجية بها فتحة دائرية..ظل هناك لبرهة ثمّ عاد ..

"هذه
تذكرتك، يمكنكِ الصعود إلى القطار آنستي الصغيرة" قال ذلك دون أن يقترب
بشكل كبير.علّه فهم عقدتي من كلّ ما يمتّ إلى كلمة (دنو) من صلة
!

استقمت واقفة، لم أنطق..تاركة صرة ثيابي على الأض، دسست كفّي ثانية في جيبي..رفعت بكلتا يداي قطعة الورق التي أعطتني إيّاها والدتي ومرّرتها إليه..

"إنّه عنوان المدينة التي نقصدها يا آنسة..تفضّلي" أجاب، ردّ إليًّ ما يخصني..ثمّ غادر.

كانت
الشمس قد ظهرت من خلف الجبال.فزعت لرؤية وجهها المشرق الذي يكشف كلّ
شيء..كنت أعلم أنّ أبي قد استيقظ وأن الليل لن يساعدني على الاختباء ثانية
..

أسرعت في الصعود إلى القطار، استرحت فوق أوّل مقعد رأيته ..لم يكن هناك أي جليس يشاركني -لم يكن هناك أيّ ذكر يقعد قريبا منّي-

" من فضلك انطلق" كلّمت ذاتي،شعرت بحامض المعدة يغزر داخل جوفي..

دام الرّكاب يلجون الباب تباعاً.. كنت أراقب وجوههم الواحد تلوى الآخر..أشعر بالراحة كلّما أيقنت أنّ المار من خلال البوابة.. ليس أبي !

انطلقت صافرة القطار مُعلنة بداية الرحلة بعدها بخمس دقائق..كدت أشعر بالنجاة !

انتفض
كُلّي ،ظاهري وباطني..حتّى فكري اهتز بمجرّد أن خطى بصري عابراً زجاج
النافذة المجاورة لي . كأنّي انصهرت وبات لحمي يذوب..ويْأكأنّي ابتلعت
قطعاً من الجمر

حبَتْ كالسلحفاة نحو أحشائي..

رأيته
قبالة السّكة الحديدية، رأيت الظالم ..كان يحوم بناظريْه كالنسر.كانت يده
اليمنى تقبض على شعر أمّي التي كانت ترجوه أن يتوقّف ..

سمعت صيحاتها بوضوح، أخفضت رأسي لكي لا يراني.امتلأت مقلتاي بالدمع، بالوجع..بالألم .كأن سياطاً غير مرئية كانت تجلدني..

"لقد وجدني" قلت في سرّي.

"عليَّ أن أنزل..لا يمكن أن أتركها تتعذّب بسببي" أضفت مخاطبة تفسي..

رفعت رأسي، اختلست النظر إلى أبي،كان القطار قد بدأ يتقدّم ولكن على مهل ..

التقت نظراتي بنظراتها، عرفتني..تعرّفت أمّي مكاني لكنّه لم يفعل ..كان يرمق القطار في الطرف الثاني.

حرّكت
رأسها بالنفي، رأيت في ملامحها شجاعة لم أختبرها طيلة سنيني معها.رغم
الكدمات على وجهها،رغم النّصب.. رغم ركبتيْها اللتان تجثوان تحت
هامته..حرّكت رأسها بالنفي
!

تكلّمت شفتاها دون أن تنطق :

"لا تتراجعي.."

"أحبّك" قلت ..

انطلقت الصافرة المدوية ثانية، نفث القطار البخار تماماً كوالدي الذي بدت زفراته ساخنة مغتاظة.أسرعت العجلات الحديدية مبتعدة بي ..

"
سأجدك أيّتها الشرهة " صاح أبي بأعلى صوته وهو يقلّب بصره في كلّ مكان
باحثا عنّي.إنهال على أميّ ضرباً كي يطفيء نار عجزه..لم يجرأ أحدٌ على
الاقتراب منه لتخليصها!!

أمّي التي ظلّ بصرها رغم تعذيبه.. يتبعني، يلحقني.. يصرّ على منعي من الضعف، من الندم ..من العودة إلى حتفي !


" أمي، سامحيني" همست ..

description ۩ فتـــــــــــــــاة الألـــــم ۩ Emptyرد: ۩ فتـــــــــــــــاة الألـــــم ۩

more_horiz
الجزء الثالث : بين أنياب الذئاب





"فقط
أغمضي عينيكِ.صغيرتي..كلّ شيء سيكون بخير" كنت أسمع صوت أمّي الشجي يهمس
في أذني،لم يكن واضحاً كحاله وهو يتسلل -عادة- صوب أذناي مُجبراً حواسي على
السبات ونسيان

جرحَ أبي جسدي... ومشاعري.صوت ضوضاء هادرة التصق به، جعل حروف أمّي تسقط ثقيلة ..متعبة كانت ترتطم بقلبي.

"ولكنّي لست في المنزل! لقد هربت؟" خاطب شيء ما عقلي.. أشعرني بحرقة شديدة، بتشويش حرمني الراحة.

اختفت الأصوات فجأة،عمّ صمت أبكم جعلني، أرتقب ..

"إنّها المحطة الأخيرة قبل وصولنا إلى مدينة (تل الزهور)" نداء خشن الملمس صدر من مكان قريب تبعته صافرة جبّارة حملت جسدي على الانتفاض فزعاً..

انبلج
جفناي بصعوبة، كلّ ما رأيته بعد تلك الهزة هو مقعدٌ شاغر أمامي ..كلّ ما
شممته كان رائحة كريهة تشبه إلى حد كبير ما كنت أشتمّه وأنا أنظف موقد
الحطب في منزلي
!

احتجت إلى بضع ثوان كي أجيب على أهم سؤال طرق باب الوعي نصف الموصد فيّ : (أين أنا؟)

أدركت
بسرعة أنّي كنت نائمة، أدكرت أنّي وسط قطار أبعدني عن أمّي وأختي.تسللت
تلك الذكريات الموجعة نحو قلبي دفعة واحدة، ويأكأنّها كانت أطناناً من
الماء الراكد وجدت أخيراً منفذاً نحو

القعر.بدت قاسية عديمة الرحمة..حملتني على استرداد وجه أمّي الباكي المعذّب ،حملتني على تذكّر كلّ ما جرى !

رفعت
ساقاي من على الأرضية، قرّبتهما من صدري..احتضنتهما وجسدي .دسست رأسي بين
أحضاني..ذاك كلّ ما استطعت فعله للتخفيف من حدة خوفي وشعوري بالقلق.

توقف القطار،تخامدت حركته حتى ماتت...

تمّ
فتح الأبواب، أخذت دفعة أخرى من الركاب تلج البيت المعدني المتنقل.لم أرفع
رأسي، ربّما اعتدت وعلى نحو ما مرور القطار بمحطات توقفّه واستقبال ما
أمكن من البشر.اعتدت مرورهم بجواري

واختيارهم
مقاعد بعيدة عنّي..لم أكن أحس بالضيق ،كنت أعلم أنّ ثيابي الممزقة كفيلة
بجعل الآخرين ينفرون من مجالستي.في الحقيقة، البقاء وحيدة هو كلّ ما كنت
أطمح إليه.

كانت المحطة الأخيرة مختلفة،شعرت بأقدام تقترب ..الصوت اقترب أكثر فأكثر.اختفى بمحاذاتي..

قال أحدهم :" هل يمكنني وابنتي الجلوس؟"

سحبت وجهي من العتمة،استقامت رقبتي..امتدّ نظري ليعاين رجلا وفتاة صغيرة وقفا فوق رأسي.

في لمح البصر جعلت سيقاني تنفلت،ترتطم بالأرضية .رفعت صرة الثياب من جواري واحتضنتها.التزمت الصمت ..

"سأعتبر هذا جوابا بنعم" تكلّم الرجل ثانية وهو يبتسم ثمّ استقر وابنته على المقعد المقابل لي.

كان
في أواخر العقد الثالث من العمر، كهلٌ طويل ذو شعر بني ناعم وعيناي
زرقاوان لامعتان.ما أثار انتباهي هو نظرته الحنونة ناحية الطفلة التي تقبع
غير بعيدة منه..كانت تدنو منه أكثر فأكثر دون أن تخاف
!

كان هو يبتسم لتظهر تلك الأسنان البيضاء الثلجية التي صعُب عليَّ تجنب التحديق إليها..

"هل تشعرين بالبرد؟" خاطب الرجل الأنيق ابنته ثم مدّ يده إليها، لم يضربها، لم يزجرها..فقط، فقط راح يمرّر كفه على كتفها !!

وجهي، صار بعد لحظة غيمة أمطرت بسخاء تعابيراً للانبهار والذهول.لم أكد أصدّق أنّ ما أراه.. حقيقة !

"إنّه رجل، لكنّه لا يضربها !!"

"الجو قارس هذا اليوم، أليس كذلك؟" تكلّم ذلك الذكر المختلف.لا شك وأنّه لاحظ نظرتي الغريبة نحوه.

احتقن وجهي حتّى ماثل حبة طماطم ناضجة، أخفضته بذل كما أفعل دائماً أمام..أبي.

"أنا الطبيب (عامر) وهذه ابنتي الصغيرة (لين)" خاطبني ثانية ثمّ مدّ يده مصافحاً..

كالعادة، كالمعتاد..كما أفعل دوماً في حالات مماثلة: حاولت صدّ ما كان يشبه بوادر ضربة.

شعرت بالغباء حينما سحب يده معتذراً، حينما ضحكت ابنته وعرفتُ بأنّه لا ينوي إيذائي..

انكمشت ،ملأت حبات من الصمت المسافة اليسيرة بيننا لوقت معتبر.. قطعتها الطفلة المساة (لين) حينما نطق لسانها سائلا :

"هل تسافرين لوحدك؟ أين والدكِ؟"

أومأت بالموافقة ولكن ما من صوت صدر...

"(لين) ، قدّمي إليها بعضاً من الشوكولاطة" قال الأب وهو يدفع إلى ابنته شيئا ما..

لم
أفهم ما يعنيه، لكنّي أرسلت أصابعي التي أمسكت ما قدّمته الطفلة الصغيرة
إليَّ، لم آكله رغم أنّ رائحته عبّقت أنفي ، جعلت بطني يشتهيه بقوة ..خبّأت
تلك القطع البنية الداكنة داخل جيب معطفي.

رأيت خيبة الأمل وقد ارتسمت على سحنتيهما...كلّ ما فعلاه بعدهها هو حوار نظرات قرّرا بعده تركي وشأني..

دارت
العجلات المعدنية للمقطورات مرّة أخرى، لعلع صفير مهول.تمزّق السكون الذي
كان يشعرني بالخجل..الذي بدا وكأنّه يجبر جليسايْ على نبلي بأسئلة تجعل
أصابعي تتخدّر.

رحت
أراقب المناظر من خلال زجاج النافذة، تغيّرت المشاهد : اختفى البساط
الشجري الذي ما فتئتُ أراه يسابق الريح لتظهر مساحات واسعة جرداء جعلت قلبي
ينقبض.

دامت
الرحلة الأخيرة خمس عشرة دقيقة ، تغيّر المشهد ثانية حيث ظهرت ومن مكان
غير بعيد معالم لم أراها في حياتي قط.مبانٍ ضخمة وإشارات لوجود تجمّع
هائل..للبشر.

مغادرتي
القطار بعد وصوله مقصده كانت فظة: لم أودّع الطبيب الودود وابنته ،كلّ ما
قمت به هو الفرار من أمامهما.لعلّ حواراً مسموعاً قد دار بينهما حول سلامة
عقلي
!

وجدت
نفسي بعد لحظات أواجه ما كان أكبر،أعظم وأقوى منّي بكثير. كانت السّاعة
تشير إلى حدود الخامسة مساءاً وقد بدأت مراسيم توديع النهار تأخذ مكانها
وسط تلك الشوارع الواسعة المخيفة

المكتظة..نجوت
وبشكل متكرّر من الموت التي كانت مركبات سريعة تحمله بين عجلاتها.لم أحس
بالخجل من نظرات الناس المزدرية لي وحسب بل شعرت بعدم انتمائي إلى كلّ شبر،
قدم، ذراع ومتر

من الأرض التي أطؤها والتي أجزم أنّها كانت مجبرة على تحمّل وزني..

الخوف: كائنٌ يسهل ابتلاعه.القلق: مادة اخترقت جلدي لتستوطن حواسي..

الصخب
جعل يستفز مراكز الدفاع غير الإرادية عندي.أحسست أنّ كلّ الناس يحدّقون
إليّ ،يتربّصون بي، ذراعي ارتفعت عشرات المرّات..اصطدامي بالمارة بات
متكرّراً حيث نسيت بطريقة أو بأخرى

كيف كنت أمشي..

أخذتني
الخطوات الكثيرة التائهة، توغلّت بي إلى ماكان يشبه غابة من المباني
الاسمنتية. انقضت نصف ساعة من الرعب المتواصل الذي غدّاه سقوط الليل البهيم
فوق رأسي..

لقد حاولت مراراً أن أستخرج تلك القطعة الورقية من يدي وأسأل أحدهم عن محتواها..أقسم أني حاولت.

كنت أعلم أنّها تضم عنوان خالتي التي تقطن تلك المدينة العملاقة، خالتي التي لم أعرفها قط !

عجزي عن القراءة والكتابة جلعني أحتاج البشر..سكاناً بدوا على عجلة من أمرهم، لا يملكون وقتاً يضيّعوه معي ..

لم الكذب، كنت خائفة من أن استوقف أحدهم، لاسيما الرجال منهم !

"ماذا
أفعل،أمّي ساعديني" خاطبت ذاتي بعد أن أيقنت بالعجز التام.استفقت فجأة
كأنّي كنت نائمة وسط الصحوة. وجدت نفسي بعيدة عن موطني وأهلي.لم يكن هناك
أحدٌ لمساعدتي سواي ..أنا، في

مواجهة خوفي وندمي الذي يعذيبي !

لم
أجد من وسيلة لجلب الهدوء غير محاولة التركيز على أهمّ شيء قد يضمن لي
السلامة.جعلت أتحسّس النقود المتبقية في جيبي..جعلت أختار المشي وسط
الشوارع العامرة بالناس، المضاءة بتلك

المصابيح الزرقاء ..الكاشفة .

خلُص
بي المسير إلى مركزِ لبيع الأطعمة، وقفت أمام محلّ لبيع الفواكه.. تعلّق
بطني بتلك الأشكال الشهية التي لم أعرفها في حياتي .شردت لثوان كلفتني سقطة
قوية على الأرض.أحدهم صدمني

بقسوة!

"أنا آسف يا آنسة" قال أحدهم وهو يركض هارباً..

"أمسكوا اللص" صاح صاحب المحل بالناس وهو يشير بأصبعه السبّابة نحو فتى صغير.

كنت لا أزال على الأرض، عندما شهدتُ ارتفاع ذلك الشاب في الهواء وارتطامه باليابسة..لقد أعاق رجل ركضه بضربة قوية وجّهها نحو ساقه ..

تجمهر
الباعة والمارة حوله..لم أكن أراه ولكنّي كنت أسمع بوضوح تلك الركلات
الموجّهة نحو أجزاء جسده..كنت أسمع تنهيداته المكتومة، الشجاعة، المتكبّرة :
لم يصرخ أبداً
!

انفضّ الخلق من حوله بعد أن أبرحوه ضرباً..

"هذا جزاءك أيّها اللص" تلك كانت آخر كلمات بائع الفواكه قبل أن يبزق في وجه الفتى وينصرف..

ظلّ
هذا الأخير لثوانٍ طويلة طريح الشارع ،أنا..وبعد أن استقمت بوهن رحت أحدّق
إليه.أردت مساعدته ولكنّي خشيت أن يظنني الناس شريكة له..لم أكن مستعدّة
لتحمّل ركلات من الغرباء أيضاً
!

لقد نهض بعد برهة كأنّ شيئا لم يكن.رفع رأسه بشموخ رغم الدم الذي كان يغطي سحنته..أخذ يعرج مغادراً.

"كم هو قوي !" قالت إحدى النسوة بقربي ..

سرق
منّي ذلك الموقف جزءاً كبيراً من اهتمامي بنفسي.جعلت أفكّر في حال ذلك
الفتى : هل يُعقل أنّ له أباً قاسياً مثلي، أيُعقل أنّه وحيد وسط هذه
المدينة الموحشة..كحالي أنا ؟

أخذني
شرودي بعيداً..سافرت بي قدماي إلى مكان لم أتقصّد زيارته، صحوتُ فجأة
لأجدني أشهد مناظر مختلفة. أعدادهم أخذت في التناقص: أصحاب الثياب الجميلة
والمركبات المسرعة، بدؤوا في

الإختفاء.لقد اختفوا، ليحلّ محلهم أناس لا يشبهونهم...يشبهونني !

كأنّهم نُشروا من قبورهم: ملابس رثة متسخة ،وجوه هزيلة شاحبة.مشية مخيفة وأصواتٌ لا تشبه شيئا سوى هسهسة الأفاعي.

لقد عجّ الشارع الضيق الذي وصلت إليه بجمع من المتشريدن ..

شعرت بخوف يقطّع الأوصال وأنا أسير وسطهم، أسرعت الخطى علّيَ أتجنّب نظراتهم القوية نحوي..

"تعالي أيّتها الحلوة" قال عجوز قبيح ثمّ حاول أن يلمسني..لقد بدت أسنانه صفراء، تماماً كأنياب الذئاب.

" ماذا تفعلين هنا أيّتها الجميلة؟" قال آخر كدت أن أصطدم به وأنا أفرّ من صاحبه..

آثرت الركض هرباً رغم الوهن الذي أصاب ركبتاي،تملّكني رعب شديد ورغبة عارمة في إيجاد منفذ نحو شارع آخر آمن ..

لم أشعر بنفسي إلاّ وأنا أُجبر على التوقّف ، أحدهم سحبني إلى الخلف..طوّق رقبتي وكذلك فعل بفمي..

قال صوتٌ حاد ذو حشرة تجعل البدن يتآكل:" نقودكِ"

لم أستوعب ما حصل، موجة من البرد جعلت ساقاي تتجمّدا..تصلّبتُ كتمثال بلا روح ..

كنت
أتنفّس بصعوبة، رحت أنتفض بعدها محاولة تخليص نفسي.. أيقنت بأنّي وسط ورطة
كبيرة.لقد تقدّم رجل آخر ضئيل نحو مرمى عيناي و أضاف قائلا :

"ألم تسمعِ ما قاله؟ نريد نقودك "

ذراعا
الشخص الذي يكاد يدقّ رقبتي، ارتخت.لقد أفلتني ثمّ أمسك كتفاي ودفعني نحو
صديقه.فعل هذا الأخير الشيء ذاته.تعالت ضحكاتهما وهما يلهوان بي كدمية
صغيرة: هذا يدفعني وذاك

يستقبلني.رحت أرتجف بينهما كأرنب صغير خائف..

كلّ ما اهتديت إليه حينها هو دس يدي داخل جيبي، القبض على النقود المتبقية لدي ثمّ رميها في الهواء..

ارتفعت
تلك الدنانير عالياً وارتفعت معها أنظارهما الخبيثة..نسيا أمري لوهلة،أخذا
يجمعان نقودي المتساقطة.كانت فرصتي..هرولت راكضة، ركضت بكّل ما أوتيت من
قوّة ..

كنت
أحس بهما خلفي.أنفاسهما اللاهثة كانت تقترب منّي سراعاً.حجبتُ كفّي داخل
جيبي ثانية علّيَ أعثر على قطعة نقدية أرميهما بها.. لم أعثر على شيء سوى
قطعة الشوكولاطة التي منحني الطبيب

إيّاها.قذفتها خلفي رغم علمي بأنّ ما يريدانه يتعدّا قطع سكر حلوة..لم يخب ظنّي، لم يتوقفا..واصلا اللحاق بي.

انعطفت يسارا، دخلت زقاقاً ضيقة لعلّني أتمكن من تضييعهما ولكن عبثاً حاولت ..


لم أستسلم إلاّ بعد أن رأيت المحال أمامي.اخترت الشارع الخطأ ! لقد أوصلني ذلك الطريق المخنوق إلى الانسداد..خلص بي عدوي إلى حائط أملس شاهق ..

كانا
خلفي مباشرة. ببطء.. ببطء شديد قاتل راحا يتقدّمان نحو صيدهما
الثمين.امتدت أظافرهما المتسخة تريدني.أخذ ظلّهما الحيواني يغمرني شيئا،
فشيئا.

التصقت بالجدار الخائن، انزلق جسدي نحو الأسفل فيما جحظت عيناي غير مصدقتين ما يجري.

" النجدة"حاولت أن أصيح، لم يصدر عن حلقي أيّ صوت ..


description ۩ فتـــــــــــــــاة الألـــــم ۩ Emptyرد: ۩ فتـــــــــــــــاة الألـــــم ۩

more_horiz

الجزء الرابع: حوارٌ قرب السد


أسدلتُ جفناي، دعمتُ السواد الذي يغطيني.. انتظرت النهاية.

"أيّتها
الجرذان القبيحة، ابتعدا عنها" كأنّ تلك الصيحة الحادة شقّت ظلّهما
المرتسم على الجدار خلفي نصفين.شعرتُ بقدرتي على التقاط الأنفاس تعود
أدراجها نحو رئتاي..

رفعتُ
رأسي ناحيتهما، قرأت خلال تلك التضاريس البشعة شيئاً من الخوف.لا لم يكن
خوفاً! كان رُعباً يشبه ذاك الذي تعزف طبوله على وتر الضعف الأنثوي فيَّ..

انحسرا إلى الوراء، خافضيْ رأسيِهما.. شكّلا فسحة بيني وبين الظل الآخر الذي أخذ يتقدّم ليأخذ مكانه بشكل مناسب على الحائط..

قال الصوت ثانية وهو يكاد يتعدّاهما : " أحمقان !"

كما
الخلاص، كما النجاة..كعودة الأمل..تقدّم.النور فوق عمود الإنارة في بداية
الشارع منع نظري من تعقّب ملامحه.ما رأيته كان سواداً تشعّ جوانبه بالضياء.
بصُرتُ بشخص قصير ذو شعر

مراوغ شحيح، جسم ممتلئ غير متناسق ومشية مترنّحة بطيئة..

"سيّدتي" همس أحد الرجلين..

"سيّدتي ! " كرّرتُ في نفسي..

علا صوت صفعة قوية، فرقع صداها ليغمر المسافة بين الحائطين اللذان يحتجزانني.

التفتَ من جعل كلّ الإنتباه يخدمه نحو المطارد الطويل، طبعَ على خدّه المليء بالشعر.. أصابعه !

رأس هذا الأخير انخفض أكثر وأكثر..

"ششش، لا أريد أن أسمع أيّ كلمة" نطق منقذي ثمّ رفع يده في حركة مهينة جعلت اللصان يتقهقران إلى الخلف مغادريْن.

بات المشهد واضحاً أمام مقلتايْ اللتان لم تكادا تصدقّان ما يحدث..

"إنّها امرأة؟" كلّمت ذاتي ولكن هذه المرّة بصوت مسموع ..

من
أذلّ ما كان يشبه شكلهما الوحوش لم يكن رجلا قوياً ذو سطوة وجبروت .من
أذلّهما.. كان عجوزاً قبيحة لا تكاد تقوى على المشيء المتّزن
!!

عقدت
الدهشة ما تبقّى لي من حبال الاستيعاب وسط ذلك الليل البارد المتشنّج
.جعلت أحدّق إليها وهي تطوي الأمتار الضئيلة بيننا بصعوبة ..

لم تبدِ ملامحها أيّ شيء عندما قالت من مسافة قريبة : " من أنتِ ؟"

"أنا..أنا..(ميسم).اسمي هو (ميسم )" أجبتُ وأنا أستقيم واقفة.

"ماذا تفعلين لوحدك هنا؟" أضافت متسائلة وهي تمسحني بعينيها الغائرتين .

"أنا..ضعت، لقد ضعت يا.. سيّدتي" تردّدت في قول الكلمة الأخيرة.أطلقتها رغماً عنّي وأنا أتوقّع أن تصفعني كما فعلت بذلك المختل.

" ضائعة إذاً، أرى ذلك !" بدت وكأنّها تخاطب نفسها أكثر ممّا تكلّمني.

"هل لديكِ أهل في (تل الزهور)؟" أردفتْ وهي تعدّل حزامها الذي شدّت حوله صرّة من النقود.

خلتها فرصتي، أو هكذا حدّثني عقلي وقتها.استخرجت الورقة المتبقية في جيبي. دفعتها إليها قائلة :

"هنا،إنّه عنوان خالتي التي تقطن هذه المدينة"

رقّت عينيها حتى صارتا خطيْن مظلميْن، سالت التجاعيد الغائرة وأغرقت كامل وجهها ماعدا أنفها الضخم المُتخم بالبثور.

"أنتِ لا تجيدين القراءة، صحيح ؟"

"أجل" أجبت خجلة.

"جيد" عادت العجوز لتكلّم نفسها..

حملقتْ مطوّلا في الورقة التي منحتها إيّاها.التزمتْ الصمت لبرهة حتّى ظننت أن خطباً ما قد اعتراها ثمّ جاء صوتها الحاد أخيراً:

"لا، إنّها لا تحوي أيّ عنوان"

بخفة، حجبت العجوز الورقة في جيب معطف الفرو المتسّخ التي ترتديه.

"ولكن..ذلك الرجل في محطة القطار قال ـــــــ"

"اتبعيني إن أردتِ البقاء على قيد الحياة " قاطعتني، منحتني ظهرها ثمّ جعلت تخطو مبتعدة.

"ولكن؟ أنا..يجــ.."

لم تستدر، واصلت مدّ الخطى..

كان عليَّ فعل شيء، كان عليَّ اتّخاذ قراري بسرعة.اخترت اللحاق بها، فبعد كلّ ما رأيته لم يكن أمامي سوى البقاء إلى جوارها..سوى الوثوق بها.

رحت
أمشي وراءها،عانق القمر قمم المنازل تلك الليلة المخيفة. كانت الشوارع
وحيدة مرتجفة..نعل العجوز الضخم أخذ يدوس كلّ شيء في طريقه،الحدبة على
كتفها الأيمن.. جعلت منظرها

من
الخلف مريعاً.راودني شعور سيء وأنا ألحقها محتضنة ثيابي وغارقة في حزن
أرغم نظراتي على السقوط أرضاً.رأيت نفسي مثل الجميلة (إيزميرالدا) في القصص
الخرافية التي كانت أمّي

تقصّها عليَّ قبل عودتي أبي وانتهاء كلّ الحكايا.تلك الفتاة المسكينة التي تتبع القبيح صاحب الحدبة على ظهره ..تتبع (كوازيمودو) !

ماذا سيحلّ بها؟ كأنّ كلّ شيء من حولي أخذ يهمس سائلا ..

بدا الدرب غير منتهٍ..سرنا بصمت مسافات طويلة.ساقاي راحتا ترسلان إشارات جادة نحو عقلي تحثّانه على فعل شيء..شعرت بالتعب الشديد.

وصلنا بعد عناء، إلى سد كبير يشطر بلدة (تل الزهور) نصفين.كان يشبه النهر ولكن ما من قوارب ركبت ظهره.

أخذت
العجوز تنزل درجاً حجرياً يقود إلى سفح جسر يصل طرفاي المدينة ببعضهما
البعض..تبعتها لتنتهيَ بي تلك القطع الصلبة إلى ما يشبه منزلا مختفياً تحت
إبط المعبر المائي.

بدا..بيتاً مناسباً لعجوز تجيد التجوّل وسط الظلمة، امرأة يخافها الرجال !!

كانت جدرانه مصنوعة من ألواح خشبية ملساء وسقفه من صفائح قصديرية رخيصة..

"ادخلي" قالت السيّدة العجوز وهي تقف على عتبة الباب.

خطوتُ
نحو الداخل..باطن المنزل لم يكن مختلفاً عن ظاهره: مساحة هزيلة تنتهي إلى
شيء يشبه المطبخ وكذا غرفة وحيدة امتلكت باباً ومفتاحاً.. أفرشة قديمة ملأت
المكان برمّته،
شعرت ببعض

الحرارة كان مصدرها دلو حديدي كبير اشتعلت نار حطب داخله.

"أين أنتِ أيّتها الكسولة؟" صاحت العجوز بأعلى صوتها.أجزم أنّي خلتها أبي !

ظهرت على الفور فتاة نحيلة - في مثل عمري تقريباً- من البهو الصغير الذي ينتهي إلى المطبخ..

سألتْ :"من هذه؟"

ردّت العجوز بحنق: " وما شأنكِ أنتِ؟ أحضري لها شيئاً تأكله" ثمّ ما لبثت أن خاطبتي مضيفة وهي تلج تلك الغرفة الموصدة بواسطة قفل :

"ستمكثين هنا إلى حين أجد عنوان خالتك"

ابتسمت الفتاة ساخرة، لمحت ضحكة تكاد تنفر من عينيها قبل أن تختفي ثانية داخل المطبخ ..

"مرحبا" قال صوتٌ رقيق ناعم، شخصٌ ما تعلّق بمعطفي.

"مرحبا " نظرت إلى الأسفل.. قلت محدثةً طفلة صغيرة لا أدري كيف وصلت إلي.

كانت
في غاية الجمال: ملكت من المحاسن شعراً أشقرا يشبه فروة رأس تلك التي
رمقتني بنظرات ازدراء وهي تدخل مطبخها.عينان خضراوان و وجنتان ورديّتان
برزتا وسط وجه ناصع البياض..

"ما اسمك أيّتها الحلوة؟"

"(لمى) ، اسمي هو (لمى).ما اسمكِ؟"

"أنا (ميسم)"

"هل ستكونين أختي ؟" سألت الطفلة ببراءة نقية جعلت يداي تمتدان لرفعها.

"(لمى)!، ماذا تفعلين؟ تعالي إلى هنا حالاً" صاحت الفتاة الشقراء الأخرى بعد أن برزت من المطبخ وهي تحمل طبق حساء وبعض الخبز.

ركضت (لمى) ثمّ سكنت إلى جوارها..

"هذا هو طعامك" لم تقل الشابة شيئاً آخر..أمسكتْ معصم الصغيرة، قادتها نحو المدفأة الدلو وجلستا هناك تنظران نحوي..

راسمة
ابتسامة ممتنة، جلستُ بدوري وأخذت آكل بهدوء.كان الجوع قد تمكّن منّي
..وكذلك فعل التعب.وجودي داخل منزل كان بمثابة مُسكّنٍ قوي هدّأ أعصابي
..رمى القلق خارج أسوار قلبي..

"هل أنتما أختينْ؟" سألتْ..

"أجل، هذه أختي (شهد) " ردّت (لمى) ثمّ ما لبثت أن صمتتْ بعد أن رمقتها أختها بنظرة ضارية.

"متشرّدة أخرى تقاسمنا الطعام والمأوى، عظيم !" همست الفتاة الصهباء المسماة (شهد).. لقد سمعتُها.

أردت أن أجيبها، أردت أن أخبرها بأنّ إقامتي ستكون قصيرة ولن تضطر إلى إعداد الطعام لي مجدّداً.أردت أن أعتذر على قدومي المفاجئ ولكن الوقت لم يمنحني فرصة للنطق..

لم أشعر إلا وشاب يقتحم المكان ..

"(وائل)، مالذي أصابك؟" قالت (شهد) بخوف شديد.

"أنتْ !" نطق لساني دون وعي.

"أنتِ !" ردّالشاب الطويل..

صفقت العجوز باب غرفتها في تلك اللحظة.جاء صوتها كالرعد المدّوي :

"عدتَ أخيراً أيّها الفاشل ! هل أحضرت نقوداً معك؟"

انسدلت عينا الفتى حتّى كادتا تنغلقان.رأيت قبضة يده وهي تنكمش عاصرة أصابعه .

أردفتْ السيّدة التي بتّ أرى في وجهها، ملامح أبي:

"أجل، لن يكون معك أيّ نقود بعد أن تمّ القبض عليك ..أنت تفسد سمعتي"

أخذ يزفر بغضب لكنّه لم يأتي على كلمة.عروق رقبته تضخّمت حتّى كادت تنفجر.قطعتا لحم أخذتا في الارتفاع والانخفاض بجوار فمه إثر تحركيه حنكَه بغضب..

"تعرف ما عليك فعله، تعرف جيّداً عقوبة من يأتي إلى منزلي دون أي نقود في جيبه"

"ولكن
ــــــ" حاولت (شهد) أن تتكلّم لكن العجوز رفعت يدها مشيرة لها
بالتوقّف..حدث ما أرادت.همد انفعال الشابة الشقراء فيما انسلّ الفتى ببطء
خارج الدار.

الباب الموصد انفتح مجدداً..غابت خلفة سيّدة البيت المُرعبة..

قلت بعد أن أيقنت أنّها لا تسمعني :

"هل سينام خارجاً؟"

لم تجب (شهد) بل احتضنت أختها الصغيرة وراحت تبكي بصمت ..

وجدت نفسي أرى مشاهد أعرفها ..تحدث !وجدتني وسط منزل تحكمه القوانين الظالمة..وجدتني أشهد عقوبة النفي، عقوبة النوم فوق أفرشة السقيع تطبّق ..

ولكن هل هناك مستودع سينام داخله الشاب يا ترى؟

نظرت
إلى (شهد) وأختها، تفقّدت غرفة العجوز الموصدة..تسلّحت بالشجاعة، حملت صحن
الحساء وقطع الخبز المتبقي ثمّ خطوت خارج البيت..كان هو جالساً إلى جوار
مياه السد ينظر إلى القمر..

اقتربتْ منه باستحياء، وما إن لاحظ وجودي حتى استقام واقفاً..

قلتْ: " مرحباً..تفضّل، لقد أحضرت لكَ شيئا تأكله"

"من أنت ِ؟لمَ أنتِ هنا؟ مالذي جاء بكِ ؟" أجاب دون مقدّمات..

"قصّة طويلة" قلت مجدّداً وأنا أقرّب الصحن أكثر منه..

"عليكِ أن تغادري هذا المكان حالا"

"إلى أين أذهب؟" قاطعته بسرعة ثمّ أردفت بهدوء مناقض:

"لا مكان لي أذهب إليه"

أخفض رأسه ولم يزد حرفاً..جلس على حافة السد مرّة أخرى..

"آسفة لأنّني لم أساعدك في السوق ،شعرت بالخوف.لعلّك تألّمت كثيراً من تلك الضربات على جسدك؟"

لم
أشعر بالخجل..شعرتُ أنّي أخاطب نفسي، كنت أحسّ بما يعانيه..لقد عانيت
الشيء ذاته لسنوات طويلة مع فارق بسيط: لم يكن أحد يأتيني بالطعام ، لم يكن
أحد يكلّمني
!!

"أنا بخير" رد بغطرسة ..

"أنتَ تكابر..أعرف جيّدا الألم الذي يقاسيه من تعرّض إلى ركلات مماثلة ..أمسك هذا، سأعود حالا"

أرغمته على إمساك الصحن وقطع الخبز..وقفتُ فوق رأسه أنتظر أن يبدأ الأكل وما إن فعل حتّى دخلت المنزل ثانية ..

عدت
بعد دقيقة وأنا أحمل بعض الأوراق الذابلة وقطع شاش استخرجتها من صرة
ثيابي. تناولتُ حجراً وأمام نظراته المستغربة، هرست الأوراق، بللتها بماء
السد ثمّ دنوتُ منه قائلة :

"إنّها أوراق مفيدة لتخفيف الألم.أنا ماهرة في علاج الكدمات..فقط ضعها على موضع الألم وستشعر بتحسن"

"لا أعلم، لم أداوي جراحي أبداً"

"فقط ضعها على مكان الوجع وضمّدها بهذه القطع القماشية"

"قلت لا أعلم، عالجيني أنت" صاح بعناد ..راح يأكل ما في الطبق بشراهة كأنّه يتقصّد صب انتباهه على شيء ما في حين ينتظر ردّي..

احمرّ
وجهي ، لم أدرِ ما أصنع.كنت على يقين بأنّه لا يجيد تضميد الجراح.أشفقت
على حاله ولم أستصغ فكرة مكوثة طوال الليل في العراء ..متألّما .

"حسنٌ، سأساعدك" قلت بعد تردّد واضح..

وجهي بات يشع احمراراً بعد أن نزع كنزته الصوفية وقال مكابراً :

"الضربة في ظهري تخزني قليلا..فقط قليلا"

"البرد قارس !"

"أنا لا أشعر بالبرد، افعليها أو اتركِ الجراح تندمل لوحدها، كما كانت دائماً"

"توقّف عن هذا،أنت تشبه الأطفال الصغار"

"عن ماذا؟" ردّ وقد تورّدت وجنتاه حياءاً.لقد أراد منّي معالجته..لكنّه خجِل من أن يقولها صراحة.

لم أجبه.. أخذت بعض العجّة الورقية، دهنت بها موضع الكدمة في ظهره: كانت إصابة خطيرة..لقد ادّعى عكس ذلك !كنت أعلم أنّه يتوجّع..

"لماذا تسرق؟" سألت وأنا أنتقل إلى ذراعه المصابة..

"لا أعرف شيء آخر لكسب المال"

"يمكنك أن تعمل ؟"

تنهّد بقوّة فآثرت الصمت ..

"اسمك (وائل)، أليس كذلك؟" قلت مغيّرة الموضوع..

هزّ كتفه موافقاً ثمّ قال بهمس :

"ما.. ؟"

"أنا (ميسم)" أجبت قبل أن يُتمّ كلامه..عقّبت قبل أن يظن أن الدور حان ليستفهمني بسؤال آخر :

"هل تلك أختاك في المنزل؟" لقد لاحظت بأنّ له نفس عيناي (لمى) رغم أن شعره كان بنياً ناعماً..أظنه يكبر (شهد) بعامين..

"هما كذلك.والعجوز الشمطاء تكون خالتنا"

فتح فمه ليضيف لولا أنّي أخذت المباردة :

"أنهيت .."

تنحنح ..مطأطئ الرأس، قال وهو يرتدي كنزته : " شكراً، وآسف لأنّي صدمتكِ"

"شكراً" جاء صوت آخر من ورائي، كانت (شهد) التي لم أحس بتقدّمها نحونا..لقد كانت تحمل غطاءاً ثقيلا.

"العفو" خاطبت الأخوين ..

"عليكِ العودة إلى البيت قبل أن تكتشف خالتي غيابك، سيكون عليكِ حينها المبيت هنا"

"حسنٌ،تصبحان على خير"

رفع
(وائل) رأسه ناظراً إليّ ثمّ أبعدهما بعد أن التقت أبصارنا..كنت أسترق
النظر إليه وأخته وأنا اتّجه صوب الدار.لقد غطّت (شهد) أخاها ثم لحقت بي ..

"خذي
هذه البطانية، ستجعلك تشعرين بالدفء" كان ذلك كلام (شهد) بعد أن عادت إلى
البيت، صحيح أنّ صوتها كان متكبّراً بعض الشيء ولكنْ كان من الواضح لي
أنّها لا تجيد ادعّاء الغضب..

"أعدك أنّي لن أمكث طويلا" قلتْ..

" أنا لم أنزعج من قدومك..أنا ..أنا فقط أرى أنّك لن تكوني في مأمن هنا"

"لماذا؟" سألتها..

لم تجب بل خطت نحو الدلو المشتعل، استلقت إلى جوار أختها الصغيرة (لمى)..

"أختي" قالت هذه الأخيرة.

"مممم"

"غنّي لي أغنية قبل النوم"

"نامي يا (لمى)، لا مزاج لي للغناء"

"أرجوكِ يا أختي..أرجوكِ"

"حسن، اغمضي عينيك وحاولي النوم" أجابت (شهد) وهي تضج ضجراً ثم بدأت الغناء..


رسمتُ بيتاً صغيراً أسميته الأحلام...في قلبي ينام، وأزوره في كلّ زمان

رسمتُ فيه الأمان، تنقصه بعض الألحان...أراه يبتسم في آن، وحزين في بعض الأحيان

يا أحلامي، طيري بي للجنان...سألوّن الدّرب، سألوّن كل السّاعات بأحلى ألوان الحنان

يا بيتي الصغير أنتَ فراشيَ المنير..يا بيتي الصغير أنتَ فراشيَ الحنين


كنت ألتحف الغطاء الدافئ،أستمع إلى صوت (شهد) العذب وأنظر من خلال الشق الكبير في الباب الخارجي إلى (وائل) ..هناك قرب السد..

غفوت أخيراً، استسلمت للرحيل الناعس..

"تصبحين على خير (جنى)، تصبحين على خير يا.. أمّي"







مع الشكر الجزيل لكلّ من قرأ الأجزاء السابقة وحثّ قلمي على تكملة
الحكاية


يُتبع..

description ۩ فتـــــــــــــــاة الألـــــم ۩ Emptyرد: ۩ فتـــــــــــــــاة الألـــــم ۩

more_horiz
الجزء الخامس : الفخ الآخر


" هل ستبحثين عن عنوان خالتي هذا اليوم؟" كان ذلك سؤالي بمجرّد أن رأيتها تظهر من خلف الباب ذو القفل المنيع !

لم
تُجبني، كلّ ما فعلته هو زفير مبهم ، تماماً كذلك الصباح الملئ بالغيوم
الشتوية الباردة.كلّ ما فعلته مالكة منزل السد،هو الجلوس إلى طاولة صغيرة
كانت (شهد) قد حمّلتها ببعضٍ من الوجبات الباردة.

كان
منظرها بشعاً بعد استيقاظها من النوم، لم يتغيّر في تلك الملامح القاسية
شيء..لم تسأل عن (وائل) الذي لم يظهر حتّى بعد انقضاء مدة عقوبته
!ذلك ما لفت انتباهي لو استثنيا جُملة المشاهد

الصادمة:
أكلها والكل وقوف، تجشؤها الصارخ وسط الهدوء القلق، مشاجرتها الفراغ من
حولها وهي تلتهم ما تراه عيناها الحادتان المخيفتان..كانت ببساطة: الشخص
الموازي، لأبي
!

"ستذهبين
للعمل هذا اليوم، لا أحد يبقى في منزلي دون عمل.عليكِ دفع ما تأكلينه هنا"
مرّرتْ لسانها لتمسح ما علق بين أسنانها المتهالكة من طعام. بدت كحيوان
مفترس أنهى لتوّه وجبته الدسمة.

أخفضتُ
رأسي حينما رفعت هامتها تنظُرُ إجابتي.لم أستطع التفوّه بكلمة رغم عدم
فهمي قصدها.لقد قلّدتُ (شهد) و(لمى) الواقفتان إلى جواري بسكون..

حافظتُ على وضعية الخضوع تلك إلى أن صفقت باب المنزلي الخارجي مغادرة عرينها !

"عمل؟" سألت (شهد) من فوري..

"افطري أوّلا ، إن كنت راغبة" أجابت هذه الأخيرة وهي تشير إلى الطاولة، إلى ما يشبه بقايا معركة.


"ماذا سنعمل؟" كرّرتُ سؤالي، كنّا نقطع شوارع (تل الزهور) متّجهين صوب مكان ما.

"سنجمع بعض المال"

"نسرق !" صدرت الإجابة كأنّها كانت على طرف لساني.تذكرّت-بطريقة أو بأخرى- كلام (وائل) عن مفهوم جمع المال.

ابتسمت (شهد) وكذلك فعلت (لمى) الصغيرة التي راحت تشبك أصابعها بأيدينا وتأرجحها في الهواء..

"ماذا؟" انفعلتْ.حدّقت مباشرة إلى وجه (شهد) بعد أن توقّفت عن المسير.

"سنتسوّل.." ردّت دون اكتراث.

"كم أنتِ ساذجة !" أضافت وهي تحثّني على المشي ثانية.

"نتسوّل !عظيم، هذا ما كان ينقصني"همست وأنا أختلس النظر إلى المارة.رحت أرمق جيوبهم التي تحوي ما يجب عليًّ استخراجه.رحت أحلم أن تطير الدنانير من مخابئها دون أن اضطر إلى طلبها !

خلصت بنا الخطوات إلى شارعٍ لم أرى في مثل ضخامته.زقاق تفوح من جوانبه رائحة الثراء الفاحش..

قالت (شهد): "وصلنا"

"هنا؟" سألت..

"أجل" رّدت (لمى) ثمّ تقدّمت ناحية جدار كبير وجلست .

فعلت أختها الشيء عينه، قعدت على الأرض المبللة، مدّت قطعة قماش أمامها ..

"هل ستقفين هناك طويلا؟"

"إلهي !" قلتْ..دنوت منهما، شاطرتها المجلس البارد.حينها تكلّمت (شهد) مجدّداً قائلة:

"ارخي يدك هكذا" ودفعت كفّها الفارغ في الهواء..

"احني
رقبتكِ قليلا لتدّعي التعب الشديد ،انظري مباشرة إلى عين الزبون..لا تخفضي
وجهك لأنّك ستمنحيه فرصة للنجاة.اظهري كلّ ما تستطيعين من البؤس كي
تتمكّني من جعل يده تمتد إلى جيبه"

"أكثر من هذا البؤس؟ لا أظن أنّ لهم فرصة حتّى !!" رحت أتفحّص ثيابي الرثة.

"لابأس في بعض الدموع" جاء صوت (لمى) الرقيق الناعم..كلماتها وخزت قلبي بل أدمته.أشفقت عليها،رأيت فيها معاناة تكبر مأساتي ! لمست شعرها، ابتسمت كأنّي ممتنة لنصيحتها..

ثلاث أذرع ممدودة، مرّة على حالنا ذاك نصف ساعة ولكن قطعة القماش ظلت شاغرة..

"من
أنتِ؟" سألتْ (شهد) دون أن تنظر إلي.ربّما شعرت بالملل أو ربّما رأت بأنّ
الوقت قد حان لتخرج من صمتها وتتعرّف قليلا ماضي من تجالسها..

دون مقدمات، أجبت:

"هربت من المنزل، أردا أبي تزويجي شيخاً يكبرني بخمسين سنة"

"لديكِ عائلة إذاً؟"

"أجل، أمٌ وأخت أيضاً"

"أمْ؟" نطقت (لمى)، حدّقت إلى أختها..

مرّت تلك النظرة الحزينة بينهما كشرارة حارقة صعقني، صمت لبرهة ثمّ قلت متردّدة:

" هل، هل لديكما عائلة؟"

عمّ الصمم، أُقفلت الأفواه..حملت الندم إلى قلبي.تمنّيت لو ترجع الحروف وتسجن ثانية داخل حلقي.امتدّت يدي أكثر وأكثر طالبة الغفران..

بصوت شحيح مريض، أجابت (شهد) بعد دقيقة:

"توفيَ أبي وأمي قبل فترة وجيزة،انتقلنا مرغمين للعيش مع خالتنا"

"فهمت" قلت بصوت خفيض قاطعته (شهد) مستنفرة:

"إنّها قادمة، استعدوا" كانت تحدّق إلى امرأة مسنّة أخذت في الاقتراب من مكان جلوسنا.

"تبدو ثرية، انظري إلى الجواهر التي تضع!" تكلّمت..

"شش، لا تنظري إليها الآن، دعيها تقترب أكثر ثمّ هاجمي عينيها.."

"حسن، فهمت..لقد فهمت"

"(لمى) ابدئي" قالت الأخت الكبرى والزبونة الأولى قد أصبحت على مشارف مضاربنا.

"جدّتي، أرجوكِ..فقط بعض النقود لشراء الخبز"

راسمة ملامح أصلية لا تحتاج الكثير من الألوان، نظرت مباشرة نحو وجهها.. رفعت ذراعي ومعه يدي نحوها..

"جدّتي" كرّرت (لمى) ثم بدأت بالبكاء..

"أرجوكِ سيّدتي الكريمة، أختي الصغيرة مريضة وتحتاج عملية..الرحمة" أضافت (شهد) بصوت يقطّع القلب.

كانت
مسرحية متقنة، تمثيلية قاربت الكمال..لا أنكر أنّي انبهرت بذلك الأداء
المؤثر ولكن ليس قطعاً تلك العجوز المسّنة.لقد تخطتنا بتكبر. بشموخ عبرت،
كأنّها لم ترانا..كأنّنا دخان،

قالت وهي تخطو مبتعدة :

"متشردون.."

جرحني كلامها، شعرت بإهانة كبيرة تستوطن داخلي.كادت الدموع تنفر من عيناي ..دموع حقيقية لا تشبه ما يغطي وجه (لمى)..

"عجوز شمطاء، ماذا ستفعلين بكلّ تلك المجوهرات..هل ستحملينها إلى قبرك؟" قالت (شهد) مستنكرة.لم يبدو عليها وعلى على أختها التأثر بما جرى !

احتجت إلى نصف ساعة أخرى كي أستطيع التخلص من مذاق الهزيمة الذي ظلّ ينافس ريقي..بدا التسوّل مهيناً للغاية..

الزبون
الثاني كان يملك قلباً نصف حنون، لقد رشقنا ببعض نقود إكراماً لدموع
(لمى).أداء (شهد) أرغم امرأة وولدها على منحنا شيئاً من المعادن
الثمينة.كان من الواضح
بأنّ وجودي

لا يدعم الفريق بشكل
كبير..ما فعلته لطرد تلك الفكرة هو إقناع نفسي بأنّي مجرّد هاوية وأنّ
جاراتي يملكن خبرة أكثر منّي في سحب الدنانير من مدافنها..

قاربت
الساعة الواحدة والنصف ظهراً،وقد حان وقت الغداء.استخرجت (شهد) بعضاً من
الخبز من حقيبتها الجلدية الصغيرة وكذا حبّات من الزيتون..بدا ذاك هو كلّ
ما نحتاجه بعد تمرين

مد الذراع لساعات !

"لمَ تنظرين إلى السماء؟" تكلّمتْ..

"أفكّر في أخي ، لم يتناول إفطاره ولا أدري إن كان قد وجد شيئاً يأكله في هذا اليوم القارس"

"معك
حق.. لقد نام في العراء، جراحه كانت متورّمة..من الأكيد أنّه ظلّ يتألم
طيلة الليل.الأعشاب التي منحته إيّاها قويّة ولكنّ تأثيرها يدوم لفترة
محدودة.الغريب هو مغادرته دون

أن
يدخل المنزل..دون أن يأكل شيئاً،خالتك لم تكترث لذلك مطلقاً؟ أرجو أن يكون
بخير.." كنت عاجزة عن التوقف عن الكلام، كأنّي انتظرت الفرصة الملائمة
للحديث عن (وائل).

جعلت أنظر إلى السماء بدوري، شعرت بالشفقة وكذا برغبة عارمة في الاطمئنان عليه..

"سيكون بخير، سيجد طريقة لـ.."

"جمع المال !"
أكملتْ.نظرت إلى (شهد)..تفوّقت ابتسامة حزينة عليَّ، علت لتصل سقف
إرادتي.ضحك ثغري قلقاً.. دون إصدار صوت.وكذلك فعل فاهها جاعلا من وجنتيها
تتورّدان.

"آتشو" عطست (لمى)،أيقظتني من أفكاري المتعبة المتّقدة وكذا ابتسامتي غير المفهومة.

"
اقتربي منّي، الجو بارد..ستصابين بالزكام" جعلت الصغيرة الشقراء تحت
معطفي، رفعت رأسي..اصطدم بصري بشخص يتجّه صوبنا.أحسست بمشاعري تختلط حتى
تصل درجة الفوضى التامة..

"إنّه هو !" قلت مخاطبة نفسي.

"من؟" تكلّمت (شهد)..

"من فضلكِ لا ترفعي يدكِ، دعيه يمر.."

"لم أفهم شيئاً، ماذا تعنين؟ "

"دعي الرجل القادم نحونا يمر، لا تطلبي منه أيّ نقود.أرجوكِ" قلت وأنا أخفي وجهي بين كفّاي..

"حسنٌ، حسنٌ.."

كعمياء بلغ سمعها أشدّه، كنت أرتقب على مضض عبوره من أمامي وانسلاخ ظله من الأرجاء.كانت ثوانٍ طويلة، ثقيلة، و..محرجة.

لقد
أحسست بوقع أقدامه تهدأ حينما مرّ بي، لقد نسيت أمر (لمى) المشاكسة تحت
معطفي.لقد امتد كفّها من تحت هذا الأخير وكذا جزء من رأسها حينما قالت
متوسّلة:

"سيّدي، أعطيني لأشتري الحلوى"

"ششش" همستْ لأوقفها..

تسارعت نبضات قلبي، شعرت بالاختناق..دام الحال لبعض الوقت لكنّه انتهى بسرعة، شعرت بأنّ الأمان قد حلّ مجدّداً مع ابتعاد خطواته عن المكان..

"إنّه رجل كريم !" تكلّمت الأخت الكبرى.

"فعلا" أردفت أختها الصغيرة ..

"ماذا تقصدن؟" كنت لا أزال غير قادرة على إماطة يداي عن وجهي.

"افتحي عينيْك، لقد غادر"

"أحقا؟" فعلتها أخيراً..جعلت أنظر شمالاً لأتأكّد ممّا قالته..

"(ميسم)، إلى أين تنظرين؟ ركّزي هنا" أضافت (شهد).

كانت خرقة القماش التي تشير هذه الأخيرة إليها تحوي قطعاً نقدية ورقية عادلت كلّ ما جمعناه حتى تلك الساعة..

" هل تعرفينه؟"

"إنّه طبيب التقيته في القطار، اسمه (عامر).. أرجو أنّه لم يتعرّفني "

"بلي، لقد فعل" ابتسامة (شهد) كانت ماكرة وهي تقول ذلك..

"يا إلهي !"

"لقد ظلّ ينظر إليكِ قبل أن يمنحنا النقود" جاء صوت (لمى) المكتوم من تحت المعطف.

"إنّه رجل طيّب القلب" كنت أكلّم نفسي أكثر مما أخاطبهما.جعلت أحدّق إلى المكان الذي اختفى فيه..

مرّت
ساعات المساء بخفة، لم أنجو من أسئلة الأختيْن اللتان أرادتا معرفة كلّ
تفاصيل لقاءي بالعم (عامر).صحيح أنّ التحقيق اللذان أجريانه أشعرني بالضيق
لكنّه فتح-على نحو ما- قناة انسجام

جميل بيننا فمع حلول الخامسة مساءاً ..اختفت شخصية (شهد) المتغطرسة لتظهر أخرى في غاية المرح والطيبة..

بدأت
تباشير الظلمة في التوالي، نظرُ (شهد) في كلّ اتجاه كان غريباً لكنّه
جعلني أحسّ بأنّ وقت الرحيل عن ذلك الشارع الضخم قد حان : لقد استلمتْ قطعة
القماش المنصوبة على قارعة الطريق،

صرّتها ثمّ قالت :

"لنعد الآن إلى البيت، قبل أن .."

لم تُكمل..تجمّد بصرها ..قالت بانفعال:

"رجال الشرطة، اهربا"

لم أفهم شيئاً ! رأيت رجلان يركضان صوبنا: كانا يحملان عصّياً سوداء صغيرة جعلت حواسي الدفاعية تنشط !!

"احملي (لمى)، ماذا تنتظرين؟" صاحت (شهد)، كانت قد ابتعدت عنّي بضع أمتار ثمّ توقّفت..

نفذّت ما قالت..طوّقت خاصرة الطفلة الصغيرة، حملتها ثمّ عدوت راكضة خلف أختها ..

"توقفوا" كان الرجلان وراءنا يصيحان ..

"ماذا فعلنا لهم، لمَ يلحقوننا؟" سألتْ ..

"إنّهم رجال الشرطة، لو أمسكوا بنا فسيعتقولننا..واصلي الركض"

"ولكن..؟" لم أستطع إخراج السؤال.شعرتُ بتوتر سام ماثل ذاك الذي أحسست به وأنا أركض هاربة من أبي، من اللصان اللذان أرادا أذّيتي !

كنت
أتبعها وفقط، كنت أتبع (شهد) التي تقدّمتني بأمتار.حمْلي (لمى) أضعف قدرتي
على العدو .كنت أحس بالوهن يتسرّب خلسة نحو جسدي، جعلت أستقيه مرغمة..
قطعنا مسافة معتبرة

لكن مُطاردينا لم يستسلما..محاولة قائدتنا اتبّاع ممرّات مختنقة لم يُفلح..

"(شهد)، احذري" صرخت ..

كانت هذه الأخيرة تنظر إلى الوراء وهي تعبر إحدى الزقاق الضيقة نحو شارع رئيس،لم تلحظ عربة خضار كانت تسير ببطء سادة المخرج ..

لم
أستطع فعل شيء، كنت في المؤخرة: كانت صدمة خفيفة تلك التي تعرضت إليها
(شهد)، لقد خفّضت سرعتها في الوقت المناسب..إمساك البائع بها قلّل من حدّة
ارتطامها بالعربة..

"هل أنتِ بخير؟" قلت لاهثة بعد أن التحقت بها.

"أختي؟" نطقت (لمى) باكية..

"هاي، أمسك بهم" نادى الشرطيان البائع من مكان قريب.

"اهربوا، هيّا..سأحاول إعاقتهم " قال بائع الخضار ثمّ جعل عربته تسد مدخل الزقاق الموصل إلى الشارع الكبير.

"شكراً..شكراً لك سيّدي" ردّت (شهد) ثمّ حملتني على الركض ثانية..لم نبتعد إلاّ أمتاراً يسيرة حينما صاحت بي وهي تتفقّد جيبها :

"النقود، صرّة النقود ! "

توقّفنا مجدّداً ..

"لقد سقطت منّي عند ارتطامي بالعربة، عليَّ أن أعود لإيجادها؟"

"ماذا تفعلون، اهربوا" قال البائع والشرطيان يكادان يصلان إليه ..

"لا..سيمسكانِك، (شهد) علينا المغادرة حالاً..(شهد)، لا تتهوّري..أرجوكِ؟"

اختنقت
الكلمات داخل حلقي، لم أعد أجد الأنفاس اللازمة للفظ المزيد من
الحروف..لقد وقّفتْ متردّدة، جعلت (شهد) تنظر إليَّ ثمّ إلى المكان الذي
أضاعت فيه صرة النقود.

قرّرتْ في النهاية ما هو أصلح لنا جميعاً : الهرب !

ركضنا صوب الشارع الضيق التالي، ومنه إلى آخر وآخر.. مساعدة البائع الطيب كانت مفيدة..لقد نجحنا في تضليل رجال الشرطة أخيراً..


حالة
(شهد) المضطربة لم تتغيّر مع وصولنا إلى منزل السد، لقد ازدادت
سوءاً..كانت الساعة تشير إلى الخامس والنصف.لم تتوقّف الأخت الكبرى ومنذ
دقائق عن ذرع البهو الصغير جيئة وذهاباُ

وهي تردّد قائلة:

"قُضيَ علينا.."

"لمَ كلّ هذا التوتر؟ أنتِ لم تتقصّدي إيقاع صرّة النقود !"

"لا تعلمين شيئاً..أنتِ، لا تعلمين أيّ شيء !" أصابعها امتدّت نحو شعرها، انغرزت به.أحسست أنّ (شهد) ستفقد عقلها قريباً.حتّى (لمى) الصغيرة لم تنجو من موجة القلق تلك،

لقد انكمشت في الزاوية دون حراك.

"هل..هل ستعاقبنا؟" كان سؤالي يشبه الهمس.

"لم يحدث لي هذا من قبل ! لن تسامحني..لن تسامحنا" حدّثت (شهد) نفسها بصوت مرتفع، نظرت إلى أختها ثمّ، إليْ.

"سنخبرها الحقيقة، أجل.. سنخبرها بأنّ رجال الشرطة قد طاردونا وقد أضعنا النقود في محاولتنا الفرار منهم"

"ماذا قلتِ؟" جاء السؤال من لا مكان.لم يكن صوت (شهد)، لم يكن كلام (لمى)..كان خشناً،مخيفاً وحاداً..حاداً للغاية.

ببطء شديد، استدرت نحو الخلف بعد أن رأيت معالم الرعب تكتسح محيّى (شهد) .

"أعيدي
ما قلتِه؟" كرّرت السيّدة العجوز -التي بدا وكأنّها ظهرت من العدم-
سؤالها.امتدت يدها لترفع سوطاً كان مُعلّقاً إلى جوار الباب الخارجي..

أشارت به نحو (شهد)، رفعت يدها الطليقة جاعلة من فمي أخرساً..قالت :

"هل كلامها صحيح؟ لم تجلبي أيّ نقود؟"

"سيّدتي" حاولت النطق..

"ششش، لم يحن دورك بعد" تكلّمت العجوز مرغمةً فمي على الانغلاق ثانية.

أجابت (شهد) بعد أن بلعت ريقها مراراً، راحت تنتفض من الخوف:

"أجل ولكن..."

"لا..لا أريد سماع أيّة أعذار..لا توجد نقود؟" حوّلتْ العجوز سوطها ناحيتي سائلة:

"لقد طاردنا رجال الشرطة و.."

"رجال
الشرطة؟" كانت تلك كلماتها الأخيرة قبل أن تنهال على (شهد) ضرباً..تعالت
صيحات هذه الأخيرة، ملأت محيط البيت.امتزج صوت لسعات السوط بأنين (شهد) الهادر.

اندلعت دموع ( لمى) الصارخة في الزاوية.,

كان
مشهداً مألوفاً أثار مشاعري. لم أحس بالخوف، لقد هزمت هيبة السوط المطاطي
منذ وقت بعيد.ما شعرت به هو الغضب.. تسلّل الغضب ليتوسّط داخلي ككرة ملتهبة
جعلت صدري

يضيق و..يضيق ويضيق. كنت أرى امرأة تجلد وبكلّ قسوة فتاة شابة..لم يكن رجلا من يمسك أداة التعذيب تلك: كانت امرأة !

لم يكن أبي، لم يكن ذكراً من يطبّق عقوبة السلخ إكراماً لقوانين ظالمة !!

" توقّفي" صرخت بكلّ ما أوتيت من قوة..

"أنا من أضاع النقود وليس هي" كذبتْ..

توقّفت ذراع العجوز في الهواء، تجمّدت..استدار جسدها من فوره نحوي.. كآلة !

"أنتِ..؟" سوطها أشار إليْ.

"هي لم تخذلني يوماً !
إذاً أنتِ من تسبّب في خسارتي مالي؟" راحت العجوز تنقل بصرها بيني وبين
(شهد) ثمّ ومثل البرق الخاطف هرولت ناحيتي، وأسدلت سوطها الجالد فوق ظهري..

كثُرت الضربات على جسدي، لم أصرخ ..كنت أفضّل أن تجلدني على أن أرى (شهداً) تُجلد.دثرت وجهي بيداي متفادية إصابتها رأسي..(شهد) جعلت تنتحب بشدة وكذلك أختها الصغرى،

أما العجوز فقد بدا وكأنّها لن تكف عن ضربي..لن تصل إلى حد الرضا ولو مت أمامها..

"يكفي، خالتي.. أرجوكِ.ليست هي من أضاعت النقود، بل..بل.. أنا" صاحت (شهد) بشجاعة.

دون أن تكلّ من تعذيبي، حدّقت العجوز إلى ابنة أختها.سوطها كاد ينحرف صوبها لولا أني نطقت بصعوبة:

"بل أنا"

"اخرسا، اخرسي..اخرسي" انهالت عليّ زجراً كما لم تفعل من قبل.أيقنت بأنّي هالكة..رحت أردّد بصوت فاتر:

"أنتِ لا تنوين البحث عن منزل خالتي، لم يكن في نيّتك مساعدتي"

اشتدّ
غيظها بعد أن سمعت كلماتي، جنّ جنونها..كنت أرتقب وصول لسعة السوط المرة
تلوى الأخرى، لحظات السلام كانت تلك التي ترفع العجوز فيها ذراعها لتستعد
لجلدي مجدّداً..ولكن حدث وأن

أحسست بأنّ إحدى تلك الثواني الرحيمة قد طالت أكثر من اللازم !!

همدت
أنفاس القبيحة صاحبة الحدبة وكذلك ضرباتها..نظرتُ إليها وكم كانت دهشتي
كبيرة حينما رأيت (وائل) يمسك معصمها مُرغماً إيّها على التوقّف..

بصوت هزّ أركان المنزل، قال الشاب والغضب قد جعل من وجهه الأبيض كتلة من الانفعال:

"توقّفي عن أذيّتها، هذه نقودك أيّتها الجشعة"

رمى (وائل) على الأفرشة صّرة مملوءة بالدنانير..

ككلب
رأى عظمة،ارتمت العجوز على الأرض.أفرغت الصرّة ثمّ راحت تعدّ الدراهم
الكثيرة وقد تلطخت ملامحها الشرسة بشيء يشبه الفرحة..لملمت غنيمته. وكأنّ
شيئا لم يكن..

قالت مخاطبة (شهد):

"انتِ حضّري العشاء"

"وأنتِ
يا ناكرة الجميل، لا عمل لكِ بعد اليوم في التسولّ.من الغد، ستكونين خادمة
في بيت إحدى العائلات الغنية " أضافت وهي ترمقني بنظرات ازدراء ثمّ ولجت
غرفتها..

"هل أنتِ بخير؟" سأل (وائل) قلقاً.. بعد أن انكسر على ركبيته قدّامي.

"هل هي بخير؟" سألت (شهد) وهي تزحف صوبي..

"أنا
..أنا " كدت أن أنطق.. ذلك كلّ ما أذكره قبل أن أشعر بسقوطي وسط الفراغ
التام ،قبل أن أفقد الإحساس ..قبل أن يغمى عليَّ تحت وطأة الألم الشديد.









شكر خاص للأخت ابتسامة على تحفيزها قلمي لمواصلة تخيّل وكتابة أحداث قصة (ميسم)

يُتبع..

description ۩ فتـــــــــــــــاة الألـــــم ۩ Emptyرد: ۩ فتـــــــــــــــاة الألـــــم ۩

more_horiz
الله يعطيك العافية على الموضوع المميز

description ۩ فتـــــــــــــــاة الألـــــم ۩ Emptyرد: ۩ فتـــــــــــــــاة الألـــــم ۩

more_horiz
سلمت اناملك اخي الكريم شكرا لك لموضوعك المميز

description ۩ فتـــــــــــــــاة الألـــــم ۩ Emptyرد: ۩ فتـــــــــــــــاة الألـــــم ۩

more_horiz
الله يعطيك العافية على القصة المميزة

description ۩ فتـــــــــــــــاة الألـــــم ۩ Emptyرد: ۩ فتـــــــــــــــاة الألـــــم ۩

more_horiz
يسلموووو .. يعطيك العافيه
privacy_tip صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
power_settings_newقم بتسجيل الدخول للرد