السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
تفسير أخر سورة الرحمن
(
ومن دونهما جنتان ( 62 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 63 ) مدهامتان ( 64 )
فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 65 ) فيهما عينان نضاختان ( 66 )فبأي آلاء ربكما
تكذبان ( 67 ) فيهما فاكهة ونخل ورمان ( 68 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 69 )
فيهن خيرات حسان ( 70 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 71 ) حور مقصورات في
الخيام ( 72 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 73 ) لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان (
74 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان( 75 ) متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان ( 76 )
فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 77 ) تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام ( 78 ) )
.
هاتان الجنتان دون اللتين قبلهما في المرتبة والفضيلة والمنزلة بنص القرآن ، قال الله تعالى : ( ومن دونهما جنتان ) .
وقد
تقدم في الحديث : " جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من فضة
آنيتهما وما فيهما ، فالأوليان للمقربين ، والأخريان لأصحاب اليمين" .
[ ص: 507 ] وقال أبو موسى : جنتان من ذهب للمقربين ، وجنتان من فضة لأصحاب اليمين .
وقال ابن عباس : ( ومن دونهما جنتان ) من دونهما في الدرج . وقال ابن زيد : من دونهما في الفضل .
والدليل
على شرف الأوليين على الأخريين وجوه : أحدها : أنه نعت الأوليين قبل هاتين
، والتقديم يدل على الاعتناء ثم قال : ( ومن دونهما جنتان) . وهذا ظاهر في
شرف التقدم وعلوه على الثاني .
وقال هناك : ( ذواتا أفنان ) : وهي الأغصان أو الفنون في الملاذ ، وقال هاهنا : ( مدهامتان ) أي سوداوان من شدة الري .
قال ابن عباس في قوله : ( مدهامتان ) قد اسودتا من الخضرة ، من شدة الري من الماء .
وقال
ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن فضيل ، حدثنا عطاء بن
السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( مدهامتان ) :قال : خضراوان .
وروي عن أبي أيوب الأنصاري ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن أبي أوفى ،
وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد - في إحدى الروايات - وعطاء ، وعطية
العوفي ، والحسن البصري ، ويحيى بن رافع ، وسفيان الثوري ، نحو ذلك .
وقال
محمد بن كعب : ( مدهامتان ) : ممتلئتان من الخضرة . وقال قتادة : خضراوان
من الري ناعمتان . ولا شك في نضارة الأغصان على الأشجار المشبكة بعضها في
بعض . وقال هناك : ( فيهما عينان تجريان ) ، وقال هاهنا : ( نضاختان ) ،
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أي فياضتان . والجري أقوى من النضخ .
وقال الضحاك : ( نضاختان ) أي ممتلئتان لا تنقطعان .
وقال
هناك : ( فيهما من كل فاكهة زوجان ) ، وقال هاهنا : ( فيهما فاكهة ونخل
ورمان ) ، ولا شك أن الأولى أعم وأكثر في الأفراد والتنويع على فاكهة ، وهي
نكرة في سياق الإثبات لا تعم ; ولهذا فسر قوله : ( ونخل ورمان ) من باب
عطف الخاص على العام ، كما قرره البخاريوغيره ، وإنما أفرد النخل والرمان
بالذكر لشرفهما على غيرهما .
قال عبد بن حميد : حدثنا يحيى بن عبد
الحميد ، حدثنا حصين بن عمر ، حدثنا مخارق ، عن طارق بن شهاب ، عن عمر بن
الخطاب قال : جاء أناس من اليهود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فقالوا : يا محمد ، أفي الجنة فاكهة ؟ قال : " نعم ، فيها فاكهة ونخل ورمان
" . قالوا : أفيأكلون كما يأكلون في الدنيا ؟ قال : " نعم وأضعاف " .
قالوا : فيقضون الحوائج ؟ قال : " لا ولكنهم يعرقون ويرشحون ، فيذهب الله
ما في بطونهم من أذى " .
[ ص: 508 ] وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي
حدثنا الفضل بن دكين ، حدثنا سفيان ، عن حماد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن
عباس قال : نخل الجنة سعفها كسوة لأهل الجنة ، منها مقطعاتهم ، ومنها حللهم
، وكربها ذهب أحمر ، وجذوعها زمرد أخضر ، وثمرها أحلى من العسل ، وألين من
الزبد ، وليس له عجم .
وحدثنا أبي : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا
حماد - هو ابن سلمة - عن أبي هارون ، عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - قال : " نظرت إلى الجنة فإذا الرمانة من رمانها كمثل
البعير المقتب " .
ثم قال : ( فيهن خيرات حسان ) قيل : المراد
خيرات كثيرة حسنة في الجنة ، قاله قتادة . وقيل : خيرات جمع خيرة ، وهي
المرأة الصالحة الحسنة الخلق الحسنة الوجه ، قاله الجمهور . وروي مرفوعا عن
أم سلمة . وفي الحديث الآخر الذي سنورده في سورة " الواقعة " : أن الحور
العين يغنين : نحن الخيرات الحسان ، خلقنا لأزواج كرام . ولهذا قرأ بعضهم :
" فيهن خيرات " ، بالتشديد ( حسان فبأي آلاء ربكما تكذبان ) .
ثم
قال : ( حور مقصورات في الخيام ) ، وهناك قال : ( فيهن قاصرات الطرف ) ،
ولا شك أن التي قد قصرت طرفها بنفسها أفضل ممن قصرت ، وإن كان الجميع
مخدرات .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي ، حدثنا
وكيع ، عن سفيان ، عن جابر ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن أبي عبيدة ، عن
مسروق، عن عبد الله قال : إن لكل مسلم خيرة ، ولكل خيرة خيمة ، ولكل خيمة
أربعة أبواب ، يدخل عليها كل يوم تحفة وكرامة وهدية لم تكن قبل ذلك ، لا
مراحات ولا طماحات ، ولا بخرات ولا ذفرات ، حور عين ، كأنهن بيض مكنون .
وقوله : ( في الخيام ) ، قال البخاري :
حدثنا
محمد بن المثنى ، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد ، حدثنا أبو عمران الجوني
، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس ، عن أبيه ; أن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - قال : " إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة ، عرضها ستون ميلا في
كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين ، يطوف عليهم المؤمنون " .
ورواه
أيضا من حديث أبي عمران ، به . وقال : " ثلاثون ميلا " . وأخرجه مسلم من
حديث أبي عمران ، به . ولفظه : " إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة
مجوفة ، طولها ستون ميلا [ ص: 509 ] للمؤمن فيها أهل يطوف عليهم المؤمن ،
فلا يرى بعضهم بعضا " .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن أبي
الربيع ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، أخبرني خليد العصري ،
عن أبي الدرداء قال : الخيمة لؤلؤة واحدة ، فيها سبعون بابا من در .
وحدثنا
أبي حدثنا عيسى بن أبي فاطمة ، حدثنا جرير ، عن هشام ، عن محمد بن المثنى ،
عن ابن عباس في قوله : ( حور مقصورات في الخيام )، وقال : [ في ] خيام
اللؤلؤ ، وفي الجنة خيمة واحدة من لؤلؤة ، أربعة فراسخ في أربعة فراسخ ،
عليها أربعة آلاف مصراع من الذهب .
وقال عبد الله بن وهب : أخبرنا
عمرو أن دراجا أبا السمح حدثه ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن النبي -
صلى الله عليه وسلم - قال : "أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون ألف خادم
، واثنتان وسبعون زوجة ، وتنصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت ، كما بين
الجابية وصنعاء " .
ورواه الترمذي من حديث عمرو بن الحارث ، به .
وقوله
: ( لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ) : [ قد ] تقدم مثله سواء ، إلا أنه زاد
في وصف الأوائل بقوله : ( كأنهن الياقوت والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان )
.
وقوله : ( متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان ) : قال علي بن أبي
طلحة ، عن ابن عباس : الرفرف : المحابس . وكذا قال مجاهد ،وعكرمة ، والحسن ،
وقتادة ، والضحاك ، وغيرهما : هي المحابس . وقال العلاء بن بدر الرفرف على
السرير كهيئة المحابس المتدلي .
وقال عاصم الجحدري : ( متكئين على رفرف خضر ) يعني : الوسائد . وهو قول الحسن البصري في رواية عنه .
وقال أبو داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في قوله : ( متكئين على رفرف خضر ) قال : الرفرف : رياض الجنة .
وقوله
: ( وعبقري حسان ) : قال ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي : العبقري :
الزرابي . وقال سعيد بن جبير : هي عتاق الزرابي ، يعني جيادها .
وقال مجاهد : العبقري : الديباج .
وسئل
الحسن البصري عن قوله : ( وعبقري حسان ) فقال : هي بسط أهل الجنة - لا أبا
لكم - [ ص: 510 ] فاطلبوها . وعن الحسن [ البصري ] رواية : أنها المرافق .
وقال زيد بن أسلم : العبقري : أحمر وأصفر وأخضر . وسئل العلاء بن زيد عن
العبقري ، فقال : البسط أسفل من ذلك . وقال أبو حزرة يعقوب بن مجاهد :
العبقري : من ثياب أهل الجنة ، لا يعرفه أحد . وقال أبو العالية : العبقري :
الطنافس المخملة ، إلى الرقة ما هي . وقال القتيبي : كل ثوب موشى عند
العرب عبقري . وقال أبو عبيدة : هو منسوب إلى أرض يعمل بها الوشي . وقال
الخليل بن أحمد: كل شيء يسر من الرجال وغير ذلك يسمى عند العرب عبقريا .
ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيعمر : " فلم أر عبقريا يفري فريه"
.
وعلى كل تقدير فصفة مرافق أهل الجنتين الأوليين أرفع وأعلى من
هذه الصفة ; فإنه قد قال هناك : ( متكئين على فرش بطائنها من إستبرق ) ،
فنعت بطائن فرشهم وسكت عن ظهائرها ، اكتفاء بما مدح به البطائن بطريق
الأولى والأحرى . وتمام الخاتمة أنه قال بعد الصفات المتقدمة : ( هل جزاء
الإحسان إلا الإحسان ) فوصف أهلها بالإحسان وهو أعلى المراتب والنهايات ،
كما في حديث جبريل لما سأل عن الإسلام ، ثم الإيمان . فهذه وجوه عديدة في
تفضيل الجنتين الأوليين على هاتين الأخريين ، ونسأل الله الكريم الوهاب أن
يجعلنا من أهل الأوليين .
ثم قال : ( تبارك اسم ربك ذي الجلال
والإكرام ) أي : هو أهل أن يجل فلا يعصى ، وأن يكرم فيعبد ، ويشكر فلا يكفر
، وأن يذكر فلا ينسى .
وقال ابن عباس : ( ذي الجلال والإكرام ) ذي العظمة والكبرياء .
وقال
الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ،
عن عمير بن هانئ ، عن أبي العذراء ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - : " أجدوا الله يغفر لكم " .
وفي الحديث الآخر : " إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم ، وذي السلطان ، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه " .
وقال
الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو يوسف الجيزي ، حدثنا مؤمل بن إسماعيل ، حدثنا
حماد ، حدثنا حميد الطويل ، عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال : " ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام " .
وكذا رواه الترمذي ، عن
محمود بن غيلان ، عن مؤمل بن إسماعيل ، عن حماد بن سلمة ، به . [ ص: 511 ]
ثم قال : غلط المؤمل فيه ، وهو غريب وليس بمحفوظ ، وإنما يروى هذا عن حماد
بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقال
الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن إسحاق ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن
يحيى بن حسان المقدسي ، عن ربيعة بن عامر قال : سمعت رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - يقول : " ألظوا بذي الجلال والإكرام " .
ورواه النسائي من حديث عبد الله بن المبارك ، به .
وقال الجوهري : ألظ فلان بفلان : إذا لزمه .
وقول ابن مسعود : " ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام " أي : الزموا . ويقال : الإلظاظ هو الإلحاح .
قلت
: وكلاهما قريب من الآخر - والله أعلم - وهو المداومة واللزوم والإلحاح .
وفي صحيح مسلم والسنن الأربعة من حديث عبد الله بن الحارث، عن عائشة قالت :
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم لا يقعد - يعني : بعد
الصلاة - إلا قدر ما يقول : " اللهم أنت السلام ومنك السلام ، تباركت ذا
الجلال والإكرام " .
هذا وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبهِ وسلم
تفسير أخر سورة الرحمن
(
ومن دونهما جنتان ( 62 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 63 ) مدهامتان ( 64 )
فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 65 ) فيهما عينان نضاختان ( 66 )فبأي آلاء ربكما
تكذبان ( 67 ) فيهما فاكهة ونخل ورمان ( 68 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 69 )
فيهن خيرات حسان ( 70 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 71 ) حور مقصورات في
الخيام ( 72 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 73 ) لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان (
74 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان( 75 ) متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان ( 76 )
فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 77 ) تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام ( 78 ) )
.
هاتان الجنتان دون اللتين قبلهما في المرتبة والفضيلة والمنزلة بنص القرآن ، قال الله تعالى : ( ومن دونهما جنتان ) .
وقد
تقدم في الحديث : " جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من فضة
آنيتهما وما فيهما ، فالأوليان للمقربين ، والأخريان لأصحاب اليمين" .
[ ص: 507 ] وقال أبو موسى : جنتان من ذهب للمقربين ، وجنتان من فضة لأصحاب اليمين .
وقال ابن عباس : ( ومن دونهما جنتان ) من دونهما في الدرج . وقال ابن زيد : من دونهما في الفضل .
والدليل
على شرف الأوليين على الأخريين وجوه : أحدها : أنه نعت الأوليين قبل هاتين
، والتقديم يدل على الاعتناء ثم قال : ( ومن دونهما جنتان) . وهذا ظاهر في
شرف التقدم وعلوه على الثاني .
وقال هناك : ( ذواتا أفنان ) : وهي الأغصان أو الفنون في الملاذ ، وقال هاهنا : ( مدهامتان ) أي سوداوان من شدة الري .
قال ابن عباس في قوله : ( مدهامتان ) قد اسودتا من الخضرة ، من شدة الري من الماء .
وقال
ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن فضيل ، حدثنا عطاء بن
السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( مدهامتان ) :قال : خضراوان .
وروي عن أبي أيوب الأنصاري ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن أبي أوفى ،
وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد - في إحدى الروايات - وعطاء ، وعطية
العوفي ، والحسن البصري ، ويحيى بن رافع ، وسفيان الثوري ، نحو ذلك .
وقال
محمد بن كعب : ( مدهامتان ) : ممتلئتان من الخضرة . وقال قتادة : خضراوان
من الري ناعمتان . ولا شك في نضارة الأغصان على الأشجار المشبكة بعضها في
بعض . وقال هناك : ( فيهما عينان تجريان ) ، وقال هاهنا : ( نضاختان ) ،
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أي فياضتان . والجري أقوى من النضخ .
وقال الضحاك : ( نضاختان ) أي ممتلئتان لا تنقطعان .
وقال
هناك : ( فيهما من كل فاكهة زوجان ) ، وقال هاهنا : ( فيهما فاكهة ونخل
ورمان ) ، ولا شك أن الأولى أعم وأكثر في الأفراد والتنويع على فاكهة ، وهي
نكرة في سياق الإثبات لا تعم ; ولهذا فسر قوله : ( ونخل ورمان ) من باب
عطف الخاص على العام ، كما قرره البخاريوغيره ، وإنما أفرد النخل والرمان
بالذكر لشرفهما على غيرهما .
قال عبد بن حميد : حدثنا يحيى بن عبد
الحميد ، حدثنا حصين بن عمر ، حدثنا مخارق ، عن طارق بن شهاب ، عن عمر بن
الخطاب قال : جاء أناس من اليهود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فقالوا : يا محمد ، أفي الجنة فاكهة ؟ قال : " نعم ، فيها فاكهة ونخل ورمان
" . قالوا : أفيأكلون كما يأكلون في الدنيا ؟ قال : " نعم وأضعاف " .
قالوا : فيقضون الحوائج ؟ قال : " لا ولكنهم يعرقون ويرشحون ، فيذهب الله
ما في بطونهم من أذى " .
[ ص: 508 ] وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي
حدثنا الفضل بن دكين ، حدثنا سفيان ، عن حماد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن
عباس قال : نخل الجنة سعفها كسوة لأهل الجنة ، منها مقطعاتهم ، ومنها حللهم
، وكربها ذهب أحمر ، وجذوعها زمرد أخضر ، وثمرها أحلى من العسل ، وألين من
الزبد ، وليس له عجم .
وحدثنا أبي : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا
حماد - هو ابن سلمة - عن أبي هارون ، عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - قال : " نظرت إلى الجنة فإذا الرمانة من رمانها كمثل
البعير المقتب " .
ثم قال : ( فيهن خيرات حسان ) قيل : المراد
خيرات كثيرة حسنة في الجنة ، قاله قتادة . وقيل : خيرات جمع خيرة ، وهي
المرأة الصالحة الحسنة الخلق الحسنة الوجه ، قاله الجمهور . وروي مرفوعا عن
أم سلمة . وفي الحديث الآخر الذي سنورده في سورة " الواقعة " : أن الحور
العين يغنين : نحن الخيرات الحسان ، خلقنا لأزواج كرام . ولهذا قرأ بعضهم :
" فيهن خيرات " ، بالتشديد ( حسان فبأي آلاء ربكما تكذبان ) .
ثم
قال : ( حور مقصورات في الخيام ) ، وهناك قال : ( فيهن قاصرات الطرف ) ،
ولا شك أن التي قد قصرت طرفها بنفسها أفضل ممن قصرت ، وإن كان الجميع
مخدرات .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي ، حدثنا
وكيع ، عن سفيان ، عن جابر ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن أبي عبيدة ، عن
مسروق، عن عبد الله قال : إن لكل مسلم خيرة ، ولكل خيرة خيمة ، ولكل خيمة
أربعة أبواب ، يدخل عليها كل يوم تحفة وكرامة وهدية لم تكن قبل ذلك ، لا
مراحات ولا طماحات ، ولا بخرات ولا ذفرات ، حور عين ، كأنهن بيض مكنون .
وقوله : ( في الخيام ) ، قال البخاري :
حدثنا
محمد بن المثنى ، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد ، حدثنا أبو عمران الجوني
، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس ، عن أبيه ; أن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - قال : " إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة ، عرضها ستون ميلا في
كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين ، يطوف عليهم المؤمنون " .
ورواه
أيضا من حديث أبي عمران ، به . وقال : " ثلاثون ميلا " . وأخرجه مسلم من
حديث أبي عمران ، به . ولفظه : " إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة
مجوفة ، طولها ستون ميلا [ ص: 509 ] للمؤمن فيها أهل يطوف عليهم المؤمن ،
فلا يرى بعضهم بعضا " .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن أبي
الربيع ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن قتادة ، أخبرني خليد العصري ،
عن أبي الدرداء قال : الخيمة لؤلؤة واحدة ، فيها سبعون بابا من در .
وحدثنا
أبي حدثنا عيسى بن أبي فاطمة ، حدثنا جرير ، عن هشام ، عن محمد بن المثنى ،
عن ابن عباس في قوله : ( حور مقصورات في الخيام )، وقال : [ في ] خيام
اللؤلؤ ، وفي الجنة خيمة واحدة من لؤلؤة ، أربعة فراسخ في أربعة فراسخ ،
عليها أربعة آلاف مصراع من الذهب .
وقال عبد الله بن وهب : أخبرنا
عمرو أن دراجا أبا السمح حدثه ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن النبي -
صلى الله عليه وسلم - قال : "أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون ألف خادم
، واثنتان وسبعون زوجة ، وتنصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت ، كما بين
الجابية وصنعاء " .
ورواه الترمذي من حديث عمرو بن الحارث ، به .
وقوله
: ( لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ) : [ قد ] تقدم مثله سواء ، إلا أنه زاد
في وصف الأوائل بقوله : ( كأنهن الياقوت والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان )
.
وقوله : ( متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان ) : قال علي بن أبي
طلحة ، عن ابن عباس : الرفرف : المحابس . وكذا قال مجاهد ،وعكرمة ، والحسن ،
وقتادة ، والضحاك ، وغيرهما : هي المحابس . وقال العلاء بن بدر الرفرف على
السرير كهيئة المحابس المتدلي .
وقال عاصم الجحدري : ( متكئين على رفرف خضر ) يعني : الوسائد . وهو قول الحسن البصري في رواية عنه .
وقال أبو داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في قوله : ( متكئين على رفرف خضر ) قال : الرفرف : رياض الجنة .
وقوله
: ( وعبقري حسان ) : قال ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي : العبقري :
الزرابي . وقال سعيد بن جبير : هي عتاق الزرابي ، يعني جيادها .
وقال مجاهد : العبقري : الديباج .
وسئل
الحسن البصري عن قوله : ( وعبقري حسان ) فقال : هي بسط أهل الجنة - لا أبا
لكم - [ ص: 510 ] فاطلبوها . وعن الحسن [ البصري ] رواية : أنها المرافق .
وقال زيد بن أسلم : العبقري : أحمر وأصفر وأخضر . وسئل العلاء بن زيد عن
العبقري ، فقال : البسط أسفل من ذلك . وقال أبو حزرة يعقوب بن مجاهد :
العبقري : من ثياب أهل الجنة ، لا يعرفه أحد . وقال أبو العالية : العبقري :
الطنافس المخملة ، إلى الرقة ما هي . وقال القتيبي : كل ثوب موشى عند
العرب عبقري . وقال أبو عبيدة : هو منسوب إلى أرض يعمل بها الوشي . وقال
الخليل بن أحمد: كل شيء يسر من الرجال وغير ذلك يسمى عند العرب عبقريا .
ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيعمر : " فلم أر عبقريا يفري فريه"
.
وعلى كل تقدير فصفة مرافق أهل الجنتين الأوليين أرفع وأعلى من
هذه الصفة ; فإنه قد قال هناك : ( متكئين على فرش بطائنها من إستبرق ) ،
فنعت بطائن فرشهم وسكت عن ظهائرها ، اكتفاء بما مدح به البطائن بطريق
الأولى والأحرى . وتمام الخاتمة أنه قال بعد الصفات المتقدمة : ( هل جزاء
الإحسان إلا الإحسان ) فوصف أهلها بالإحسان وهو أعلى المراتب والنهايات ،
كما في حديث جبريل لما سأل عن الإسلام ، ثم الإيمان . فهذه وجوه عديدة في
تفضيل الجنتين الأوليين على هاتين الأخريين ، ونسأل الله الكريم الوهاب أن
يجعلنا من أهل الأوليين .
ثم قال : ( تبارك اسم ربك ذي الجلال
والإكرام ) أي : هو أهل أن يجل فلا يعصى ، وأن يكرم فيعبد ، ويشكر فلا يكفر
، وأن يذكر فلا ينسى .
وقال ابن عباس : ( ذي الجلال والإكرام ) ذي العظمة والكبرياء .
وقال
الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ،
عن عمير بن هانئ ، عن أبي العذراء ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - : " أجدوا الله يغفر لكم " .
وفي الحديث الآخر : " إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم ، وذي السلطان ، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه " .
وقال
الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو يوسف الجيزي ، حدثنا مؤمل بن إسماعيل ، حدثنا
حماد ، حدثنا حميد الطويل ، عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال : " ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام " .
وكذا رواه الترمذي ، عن
محمود بن غيلان ، عن مؤمل بن إسماعيل ، عن حماد بن سلمة ، به . [ ص: 511 ]
ثم قال : غلط المؤمل فيه ، وهو غريب وليس بمحفوظ ، وإنما يروى هذا عن حماد
بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقال
الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن إسحاق ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن
يحيى بن حسان المقدسي ، عن ربيعة بن عامر قال : سمعت رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - يقول : " ألظوا بذي الجلال والإكرام " .
ورواه النسائي من حديث عبد الله بن المبارك ، به .
وقال الجوهري : ألظ فلان بفلان : إذا لزمه .
وقول ابن مسعود : " ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام " أي : الزموا . ويقال : الإلظاظ هو الإلحاح .
قلت
: وكلاهما قريب من الآخر - والله أعلم - وهو المداومة واللزوم والإلحاح .
وفي صحيح مسلم والسنن الأربعة من حديث عبد الله بن الحارث، عن عائشة قالت :
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم لا يقعد - يعني : بعد
الصلاة - إلا قدر ما يقول : " اللهم أنت السلام ومنك السلام ، تباركت ذا
الجلال والإكرام " .
هذا وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبهِ وسلم