حكم تارك الصلاة
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور
أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي
له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده
ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،
أما بعد:
فإن
كثيراً من المسلمين اليوم تهاونوا بالصلاة وأضاعوها حتى تركها بعضهم تركاً
مطلقاً تهاوناً، ولنا كانت هذه المسألة من المسائل العظيمة الكبرى التي
ابتلي بها الناس اليوم واختلف فيها علماء الأمة وأئمتها قديماً وحديثاً
أحببت أن أكتب فيها ما تيسر.
ويتلخص في تحرير ثلاث مقامات:
المقام الأول: في حكم تارك الصلاة.
المقام الثاني: في حكم تزويجه بمسلمة.
المقام الثالث: في حكم أولاده منها.
فأما
المقام الأول: فإن هذه المسألة من مسائل العلم الكبرى وقد تنازع فيها أهل
العلم سلفاً وخلفاً، فقال الإمام أحمد بن حنبل: تارك الصلاة كافر كفراً
مخرجاً عن الملة يقتل إذا لم يتب ويصلي، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي:
فاسق ولا يكفر، ثم اختلفوا فقال مالك والشافعي يقتل حداً، وقال أبو حنيفة:
يعزر ولا يقتل.
وإذا كانت هذه المسألة من مسائل النزاع فالواجب ردها إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}، وقوله: {فَإِنْ
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ
كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ
وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}،
ولأن كل واحد من المختلفين لا يكون قوله حجة على الآخر؛ لأن كل واحد يرى
أن الصواب معه، وليس أحدهما أولى بالقبول من الآخر، فوجب الرجوع في ذلك إلى
حكم بينهما وهو كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وإذا رددنا هذا النزاع إلى الكتاب والسنة وجدنا أن الكتاب والسنة كلاهما يدل على كفر تارك الصلاة الكفر الأكبر المخرج عن الملة.
أما الكتاب: فقوله تعالى في سورة التوبة: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}، وقوله في سورة مريم: {فَخَلَفَ
مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ
فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً
فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً}.
فوجه الدلالة من الآية الثانية آية سورة مريم أن الله قال في المضيّعين للصلاة المتبعين للشهوات: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَن}، فدل على أنهم حين إضاعتهم للصلاة واتباع الشهوات غير مؤمنين.
ووجه
الدلالة من الآية الأولى أية سورة التوبة أن الله تعالى اشترط لثبوت
الأخوة بيننا وبين المشركين ثلاثة شروط: أن يتوبوا من الشرك وأن يقيموا
الصلاة، وأن يؤتوا الزكاة، فإن تابوا من الشرك ولم يقيموا الصلاة ولم يؤتوا
الزكاة فليسوا بإخوة لنا، وإن أقاموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة فليسوا
بإخوة لنا، والأخوة في الدين لا تنتفي إلا حيث يخرج المرء من الدين بالكلية
فلا تنتفي بالفسوق والكفر دون الكفر.
ألا ترى إلى قوله تعالى في آية القصاص من القتل: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}، فجعل الله القاتل عمداً أخاً للمقتول، مع أن القتل عمداً من أكبر الكبائر لقوله تعالى: {وَمَنْ
يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا
وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}.
ثم ألا ترى إلى قوله تعالى في الطائفتين من المؤمنين إذا اقتتلوا: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُم}،
فأثبت الله تعالى الأخوة بين الطائفة المصلحة والطائفتين المقتتلتين مع أن
قتال المؤمن من الكفر، كما ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره
عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"،
لكنه كفر لا يخرج من الملة إذ لو كان مخرجاً من الملة ما بقيت الأخوة
الإيمانية معه، والآية الكريمة قد دلت على بقاء الأخوة الإيمانية مع
الاقتتال.
وبهذا
علم أن ترك الصلاة كفر مخرج عن الملة إذ لو كان فسقاً أو كفراً دون كفر ما
انتفت الأخوة الدينية به كما لم تنتف بقتل المؤمن وقتاله.
فإن قال قائل: هل ترون كفر تارك إيتاء الزكاة كما دل عليه مفهوم آية التوبة؟
قلنا:
كفر تارك إيتاء الزكاة قال به بعض أهل العلم وهو إحدى الروايتين عن الإمام
أحمد رحمه الله تعالى، ولكن الراجح عندنا أنه لا يكفر، لكنه يعاقب بعقوبة
عظيمة ذكرها الله تعالى في كتابه، وذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في
سنته، ومنها ما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه
وسلم ذكر عقوبة مانع الزكاة وفي آخره: "ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار"،
وقد رواه مسلم بطوله في باب إثمٌ مانع الزكاة وهو دليل على أنه لا يكفر إذ
لو كان كافراً ما كان له سبيل إلى الجنة، فيكون منطوق هذا الحديث مقدماً
على مفهوم آية التوبة لأن المنطوق مقدم على المفهوم كما هو معلوم في أصول
الفقه.
وأما دلالة السنة على كفر تارك الصلاة فقوله صلى الله عليه وسلم: "إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة" (رواه مسلم في كتاب الإيمان عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم).
وعن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر" (رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه).
والمراد
بالكفر هنا الكفر المخرج عن الملة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل
الصلاة فصلاً بين المؤمنين والكافرين، ومن المعلوم أن ملة الكفر غير ملة
الإسلام فمن لم يأت بهذا العهد فهو من الكافرين.
وفي صحيح مسلم عن أم سلمة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف بريء، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع"، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: "لا، ما أقاموا فيكم الصلاة".
وفيه من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار ائمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم"، قيل: يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: "لا، ما أقاموا فيكم الصلاة".
ففي
هذين الحديثين دليل على منابذة الولاة وقتالهم بالسيف إذا لم يقيموا
الصلاة، ولا تجوز منازعة الولاة وقتالهم إلا إذا أتوا كفراً صريحاً عندنا
فيه برهان من الله تعالى لقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه: دعانا رسول
الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على
السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا
ننازع الأمر أهله، قال: "إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان"،
وعلى هذا فيكون تركهم للصلاة الذي علق عليه النبي صلى الله عليه وسلم
منابذتهم وقتالهم بالسيف كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان.
ولم
يرد في الكتاب والسنة أن تارك الصلاة ليس بكافر، أو أنه مؤمن، وغاية ما
ورد في ذلك نصوص تدل على فضل التوحيد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً
رسول الله، وثواب ذلك، وهي إما مقيدة بقيود في نفس النص يمتنع معها أن يترك
الصلاة، وإما واردة في أحوال معينة يعذر الإنسان فيها بترك الصلاة، وإما
عامة فتحمل على أدلة كفر تارك الصلاة؛ لأن أدلة كفر تارك الصلاة خاصة
والخاص مقدم على العام.
فإن قال قائل: ألا يجوز أن تحمل النصوص الدالة على كفر تارك الصلاة على من تركها جاحداً لوجوبها؟
قلنا: لا يجوز ذلك لأن فيه محذورين:
الأول:
إلغاء الوصف الذي اعتبره الشارع وعلق الحكم به، فإن الشارع علق الحكم
بالكفر على الترك دون الجحود، ورتب الأخوة في الدين على إقام الصلاة دون
الإقرار بوجوبها لم يقل الله تعالى: {فإن تابوا وأقروا بوجوب الصلاة}،
ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: "بين الرجل وبين الشرك والكفر جحد وجوب
الصلاة"، أو: "العهد الذي بيننا وبينهم الإقرار بوجوب الصلاة فمن جحد
وجوبها فقد كفر"، ولو كان هذا مراد الله تعالى ورسوله لكان العدول عنه خلاف
البيان الذي جاء به القرآن قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْء}، وقال تعالى مخاطباً نبيه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}.
المحذور
الثاني: اعتبار وصف لم يجعله الشارع مناطاً للحكم فإن جحود وجوب الصلوات
الخمس موجب لكفر من لا يعذر بجهله فيه سواء صلى أم ترك، فلو صلى شخص
الصلوات الخمس وأتى بكل ما يعتبر لها من شروط وأركان وواجبات ومستحبات لكنه
جاحد لوجوبها بدون عذر له فيه لكان كافراً مع أنه لم يتركها، فتبين بذلك
أن حمل النصوص على من ترك الصلاة جاحداً لوجوبها غير صحيح، وأن الحق أن
تارك الصلاة كافر كفراً مخرجاً عن الملة كما جاء ذلك صريحاً فيما رواه بن
أبي حاتم في سننه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: أوصانا رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "لا تشركوا بالله شيئاً ولا تتركوا الصلاة عمداً فمن تركها عمداً متعمداً فقد خرج من الملة".
وكما
أن هذا مقتضى الدليل السمعي الأثري فهو مقتضى الدليل العقلي النظري فكيف
يكون عند الشخص إيمان مع تركه للصلاة التي هي عمود الدين وجاء من الترغيب
في فعلها ما يقتضي لكل عاقل مؤمن أن يحذر من تركها وإضاعتها؟! فتركها مع
قيام هذا المقتضى لا يبقى إيماناً مع التارك.
فإن
قال قائل: ألا يحتمل أن يراد بالكفر في تارك الصلاة كفر النعمة لا كفر
الملة؟ أو أن المراد به كفر دون الكفر الأكبر؟ فيكون كقوله صلى الله عليه
وسلم: "اثنتان في الناس هما بهما كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت"، وقوله: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"، ونحو ذلك.
قلنا: هذا الاحتمال والتنظير له لا يصح لوجوه:
الأول:
أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الصلاة حداً فاصلاً بين الكفر والإيمان،
وبين المؤمنين والكفار، والحد يميز المحدود ويخرجه عن غيره، فالمحدودان
متغايران لا يدخل أحدهما في الآخر.
الثاني:
أن الصلاة ركن من أركان الإسلام فوصف تاركها بالكفر يقتضي أنه الكفر
المخرج من الإسلام؛ لأنه هدم ركناً من أركان الإسلام بخلاف إطلاق الكفر على
من فعل فعلاً من أفعال الكفر.
الثالث: أن هناك نصوصاً أخرى دلت على كفر تارك الصلاة كفراً مخرجاً عن الملة فيجب حمل الكفر على ما دلت عليه لتتلاءم النصوص وتتفق.
الرابع: أن التعبير بالكفر مختلف ففي ترك الصلاة قال: "بين الرجل وبين الشرك والكفر"،
فعبّر بـ: (ال) الدالة على أن المراد بالكفر حقيقة الكفر بخلاف كلمة:
"كفر" منكراً، أو كلمة: "كفر" بلفظ الفعل فإنه دال على أن هذا من الكفر أو
أنه كفر في هذه الفعلة، وليس هو الكفر المطلق المخرج عن الإسلام.
قال شيخ الإسلام بن تيمية في كتاب: "اقتضاء الصراط المستقيم" ص70 ط السنة المحمدية على قوله صلى الله عليه وسلم: "اثنتان في الناس هما بهم كفر"، قال: فقوله: "هما بهم كفر"
أي هاتان الخصلتان هما كفر قائم بالناس، فنفس الخصلتين كفر حيث كانتا من
أعمال الكفر، وهما قائمتان بالناس، لكن ليس كل من قام به شعبة من شعب الكفر
يصير بها كافراً الكفر المطلق حتى تقوم به حقيقة الكفر، كما أنه ليس كل من
قام به شعبة من شعب الإيمان يصير بها مؤمناً حتى يقوم به أصل الإيمان
وحقيقته، وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس بين العبد وبين الكفر والشرك إلا ترك الصلاة"، وبين كفر منكر في الإثبات.أ.هـ. كلامه.
فإذا
تبين أن تارك الصلاة بلا عذر كافر كفراً مخرجاً عن الملة بمقتضى هذه
الأدلة كان الصواب فيما ذهب إليه الإمام أحمد بن حنبل وهو أحد قولي الشافعي
ذكره ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ}، وذكر بن القيم في كتاب الصلاة أنه أحد الوجهين في مذهب الشافعي وأن الطحاوي نقله عن الشافعي نفسه.
وعلى
هذا القول جمهور الصحابة بل حكى غير واحد إجماعهم عليه، قال عبد الله بن
شقيق: "كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه
كفر غير الصلاة" (رواه الترمذي والخمسة وصححه على شرطهما)، وقال إسحاق بن
راهويه الإمام المعروف: "صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن تارك الصلاة
كافر"، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا
هذا أن تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يخرج وقتها كافر، وذكر بن حزم
أنه قد جاء عن عمر، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وأبي هريرة وغيرهم
من الصحابة قال: "ولا نعلم لهؤلاء مخالفاً من الصحابة" نقله عنه المنذري في
الترغيب والترهيب وزاد من الصحابة: عبد الله بن مسعود، وعبدالله بن عباس،
وجابر بن عبد الله، وأبا الدرداء رضي الله عنهم، قال: ومن غير الصحابة أحمد
بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعبدالله بن المبارك، والنخعي، والحكم بن
عتيبة، وأيوب السختياني، وابو داود الطيالسي، وأبو بكر بن أبي شيبة، وزهير
بن حرب وغيرهم.أ.هـ.
فإن قال قائل: ما الجواب عن الأدلة التي استدل بها من لا يرى كفر تارك الصلاة؟
قلنا:
الجواب أن هذه الأدلة لم يأتِ فيها أن تارك الصلاة لا يكفر، أو أنه مؤمن،
أو أنه لا يدخل النار، أو أنه في الجنة ونحو ذلك، ومن تأملها وجدها لا تخرج
عن أربعة أقسام كلها لا تعارض أدلة القائلين بأنه كافر.
القسم الأول: ما لا دليل فيه أصلاً للمسألة مثل استدلال بعضهم بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، فإن معنى قوله: {مَا دُونَ ذَلِكَ}
ما هو أقل من ذلك، وليس معناه ما سوى ذلك بدليل أن من كذب بما أخبر الله
به ورسوله فهو كافر كفراً لا يغفر وليس ذنبه من الشرك ولو سلمنا أن معنى: {مَا دُونَ ذَلِكَ}،
ما سوى ذلك لكان هذا من باب العام المخصوص بالنصوص الدالة على الكفر بما
سوى الشرك، والكفر المخرج عن الملة من الذنب الذي لا يغفر وإن لم يكن
شركاً.
القسم الثاني: عام مخصوص بالأحاديث الدالة على كفر تارك الصلاة مثل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ بن جبل: "ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار".
وهذا أحد ألفاظه وورد نحوه من حديث أبي هريرة، وعبادة بن الصامت، وعتبان بن مالك رضي الله عنهم.
القسم الثالث: عام مقيد بما لا يمكن معه ترك الصلاة مثل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عتبان بن مالك: "فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" (كما رواه البخاري)، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ: "ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار"
(كما رواه البخاري)، فتقييد الإتيان بالشهادتين بإخلاص القصد وصدق القلب
يمنع من ترك الصلاة، إذ ما من شخص يصدق في ذلك ويخلص إلا حمله صدقه وإخلاصه
على فعل الصلاة ولابد، فإن الصلاة عمود الإسلام، وهي الصلة بين العبد
وربه، فإذا كان صادقاً في ابتغاء وجه الله فلابد أن يفعل ما يوصله إلى ذلك،
ويتجنب ما يحول بينه وبينه، وكذلك من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً
رسول الله صدقاً من قلبه فلابد أن يحمله ذلك الصدق على أداء الصلاة مخلصاً
بها لله تعالى، متبعاً فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك من
مستلزمات تلك الشهادة الصادقة.
القسم
الرابع: ما ورد مقيداً بحال يعذر فيها بترك الصلاة كالحديث الذي رواه ابن
ماجه عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب..." الحديث، وفيه: "وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله فنحن نقولها"،
فقال له صلة: ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة، ولا
صيام، ولا نسك، ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة، ثم ردها عليه ثلاثاً كل ذلك
يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: "يا صلة تنجيهم من النار"
ثلاثاً، فإن هؤلاء الذين أنجتهم الكلمة من النار كانوا معذورين بترك شرائع
الإسلام، لأنهم لا يدرون عنها فما قاموا به هو غاية ما يقدرون عليه، وحالهم
تشبه حال من ماتوا قبل فرض الشرائع، أو قبل أن يتمكنوا من فعلها كمن مات
عقب شهادته قبل أن يتمكن من فعل الشرائع، أو أسلم في دار الكفر قبل أن
يتمكن من العلم بالشرائع.
والحاصل
أن ما استدل به من لا يرى كفر تارك الصلاة لا يقاوم كفر ما استدل به من
يرى كفره؛ لأن ما استدل به أولئك إما أن لا يكون فيه دلالة أصلاً، وإما أن
يكون مقيداً بوصف لا يتأتى معه ترك الصلاة، أو مقيداً بحال يعذر فيها بترك
الصلاة، أو عاماً مخصوصاً بأدلة تكفيره.
فإذا
تبين كفره بالدليل السالم عن المعارض المقاوم وجب أن تترتب أحكام الكفر
عليه، ضرورة أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً وبهذا يتبين:
المقام
الثاني: وهو أن تارك الصلاة لا يحل أن يعقد له على امرأة مسلمة؛ لأنه كافر
والكافر لا تحل له المرأة المسلمة بالنص والإجماع، قال الله تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ
فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ
عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارلا
هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}،
وقال في المغني 592/6: "وسائر الكفار غير أهل الكتاب لا خلاف بين أهل
العلم في تحريم نسائهم وذبائحهم"، قال: "والمرتدة يحرم نكاحها على أي دين
كانت؛ لأنه لم يثبت لها حكم أهل الدين الذي إنتقلت إليه في إقرارها عليه
ففي حلها أولى"، وقال في باب المرتد: "وإن تزوج لم يصح تزوجه لأنه لا يقر
على النكاح، وما منع الإقرار على النكاح منع انعقاده كنكاح الكافر
المسلمة"، وفي مجمع الأنهر للحنفية آخر باب نكاح الكافر ص302/ج1: "ولايصح
تزوج المرتد ولا المرتدة أحداً لإجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين"،
فأنت ترى أنه صرح بتحريم نكاح المرتدة، وأن نكاح المرتد غير صحيح فماذا
يكون لو حصلت الردة بعد العقد؟ قال في المغني 298/6: "إذا ارتد أحد الزوجين
قبل الدخول انفسخ النكاح في الحال، ولم يرث أحدهما الآخر، وإن كانت ردته
بعد الدخول ففيه روايتان: إحداهما تتعجل الفرقة، والثاني: تقف على انقضاء
العدة"، وفي ص639 منه أن انفساخ النكاح بالردة قبل الدخول قول عامة أهل
العلم واستدل له، وأن انفساخه في الحال إذا كان بعد الدخول قول مالك وأبي
حنيفة، وتوقفه على انقضاء العدة قول الشافعي، وهذا يقتضي أن الأئمة الأربعة
متفقون على انفساخ النكاح بردة أحد الزوجين، لكن إن كانت الردة قبل الدخول
انفسخ النكاح في الحال، وإن كانت بعد الدخول فمذهب مالك وأبي حنيفة
الانفساخ في الحال، ومذهب الشافعي الانتظار إلى انقضاء العدة، وعن أحمد
روايتان كالمذهبين وفي ص640 منه: "وإن ارتد الزوجان معاً فحكمهما حكم ما لو
ارتد أحدهما إن كان قبل الدخول تعجلت الفرقة، وإن كان بعده فهل تتعجل أو
تقف على انقضاء العدة؟ على روايتين، وهذا مذهب الشافعي، ثم نقل عن أبي
حنيفة أن النكاح لا ينفسخ استحساناً لأنه لم يختلف بهما الدين فأشبه ما لو
أسلما، ثم نقض قياساً طرداً وعكساً.
وإذا
تبين أن نكاح المرتد لا يصح من مسلم سواء كان أنثى أم رجلاً وأن هذا مقتضى
دلالة الكتاب والسنة، وتبين أن تارك الصلاة كافر بمقتضى دلالة الكتاب،
والسنة، وقول عامة الصحابة تبين أن الرجل إذا كان لا يصلي وتزوج امرأة
مسلمة فإن زواجه غير صحيح، ولا تحل له المرأة بهذا العقد، وأنه إذا تاب إلى
الله تعالى ورجع إلى الإسلام وجب عليه تجديد العقد.
وهذا
بخلاف أنكحة الكفار حال كفرهم مثل أن يتزوج كافر بكافرة ثم تسلم الزوجة
فهذا إن كان إسلامها قبل الدخول إنفسخ النكاح، وإن كان إسلامها بعده لم
ينفسخ النكاح ولكن ينتظر فإن أسلم الزوج قبل انقضاء العدة فهي زوجته، وإن
انقضت العدة قبل إسلامه فلا حق له فيها لأنه تبين أن النكاح قد انفسخ منذ
أن أسلمت.وقد كان الكفار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يسلمون مع
زوجاتهم ويقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على أنكحتهم إلا أن يكون سبب
التحريم قائماً مثل أن يكون الزوجان مجوسيين وبينهما رحم محرم فإذا أسلما
حينئذ فرق بينهما لقيام سبب التحريم، وهذه المسألة ليست كمسألة المسلم الذي
كفر بترك الصلاة ثم تزوج مسلمة، فإن المسلمة لا تحل للكافر بالنص والإجماع
كما سبق ولو كان الكافر أصلياً غير مرتد، ولهذا لو تزوج كافر مسلمة
فالنكاح باطل ويجب التفريق بينهما فلو أسلم وأراد أن يتزوجها لم يكن له ذلك
إلا بعقد جديد.
المقام
الثالث: في حكم أولاد تارك الصلاة من مسلمة تزوج بها فأما بالنسبة للأم
فهم أولاد لها بكل حال، وأما بالنسبة للمتزوج فعلى قول من لا يرى كفر تارك
الصلاة فهم أولاد يلحقون به بكل حال؛ لأن نكاحه صحيح، وأما على قول من يرى
كفر تارك الصلاة وهو الصواب على ما سبق تحقيقه في المقام الأول، فإننا
ننظر:
فإن
كان الزوج لا يعلم أن نكاحه باطل، أو لا يعتقد ذلك فالأولاد أولاده يلحقون
به؛ لأن وطئه في هذه الحال مباح في اعتقاده فيكون وطء شبهة، ووطء الشبهة
يلحق به النسب.
وإن
كان الزوج يعلم أن نكاحه باطل ويعتقده فإن أولاده لا يلحقون به؛ لأنهم
خلقوا من ماء من يرى أن جماعه محرم لوقوعه في امرأة لا تحل له.
هذا
هو تحرير القول في هذه المسألة العظيمة التي ابتلي بها كثير من الناس
اليوم، والله نسأل أن يهيىء لنا من أمرنا رشداً، وأن يهدينا وإخواننا
المسلمين صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين
والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله
وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله الجزء الثاني عشر