السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هي قصة قرأتها منذ زمن ولا أتذكر اسم كاتبها ، لكن ما
دفعني لنشرها هاهنا ، مضمونها والفكرة التي تدعو إليها ،،
فعساها تنال الاعجاب وتأخذ نصيبا من اهتمامكم ..
الحمامة المطوَّقة
قصة قصيرة
دانت لها الدنيا فتبوأت عرشها ملكة غير متوجة
كانت ورْدة يانعة تفتحت أكمامها فراحت تستنشق عبير الحياة .
هي من أسرة كريمة المنبت عريقة الأصل وعظيمة الثراء
حباها الله بحسن رائع وجمال ساحر تصيب القلوب بسحر لحظها
وكانت وحيدة أبويها فأرخيا لها العنان واستكانا لرغباتها واستجابا لكل ما تحبه
ونزلا عند حكمها فشبّت طليقة العنان وأمْرها في يدها تفعل ما تشاء دون اعتراض من أهل أو أصدقاء .
وأصبحت رجاء زهرة المجتمعات المتألقة تطوقها النظرات من كل صوب
وتحفّ بها أينما سارت وحيثما اتجهت
لاحقتها نظرات الحسد من النساء ونظرات الوله والافتتان من الرجال
حتى أطلق البعض عليها اسم الحمامة المطوّقة .
وانساقت رجاء مع تيار بيئتها فجرفها دون أنْ تحسّ بغضاضة من الجو المحيط بها
ودون أنْ يرْدعها رادع أو يوقظها موقظ
ودون أنْ يفتح عينيْها إنسان .
كانت تزهو بحسنها وتتيه بجمالها وبأسرتها .
وراحت رجاء تتنقل بين رياض الحياة وجناتها غير الخالدات
وهي في كل هذا ضاحكة لاهية مرحة طروب غرّيرة لا تحْفل بالدنيا ولا تكترث بالعالم
ولا يهمها إلا النّزهات والحفلات والسهرات
وكم من ليلة قضتها مع صديقاتها وأصدقائها ينعمون بالضحك والسرور
ورجاء تتنقل بين طاولة لعب الورق وبين الرقص وهي في غضون هذا وذاك تستمع إلى همس الهامسين ومناجاة العاشقين
بيد أنها ظلت محتفظة بقلبها فلم يستطع أحد أنْ يغزوه فظلّ
خاليا من الحبّ حرّا طليقا من كل قيد وكم من مرة ساألت نفسها :
- أتراني خلقت من غير قلب أليس لي قلب يحبّ ويهوى ما بالي لا أعشق أحدا كما تعشق الفتيات مثيلاتي
لكل منهن حبيب تتغنى بحبه وترتل آيات غرامه وتستمتع بهواه
أما أنا فلا قلب لي يخْفق بالحب كما تخْفق قلوبهن تلك الخفقات التي أسمع أنها لذيذة شهية
إنّ الناس يقولون إنّ الحبّ لذيذ ممْتع في فرْحته وألمه وسعادته وشقائه ونعيمه وعذابه
فهو في الحالتين هو شيء ممْتع . يا إلهي أين قلبي ؟؟ .
وكم من ليلة مرت بها وهي مفتوحة العينيْن لا يغمض لها جفن
وتتقلب في فراشها وهي في حيرة وألم وضيق وتعجب من أمر نفسها
أتراها ستقضي حياتها على هذه الوتيرة المملة القاسية
أتراها ستبقى طوال عمرها مدفونة القلب لا يخرج من لحْده ساكنة الفؤاد لا يعزف على أوتاره الحبّ
وهل تراها متنقلة كالفراشة من زهرة إلى زهرة دون أن تستمتع برحيق تلك الزهور
حتى يأتي يوم يحترق فيه جناحاها فتقضي نحبها دون أنْ يبكيها حبيب .
ولكن هل الحبّ ضرورة من ضرورات الحياة
ألا تستطيع أنْ تنعم بالحياة دون أنْ يخفق قلبها
إنها لا تدري ولا تستطيع أنْ تبتّ برأي وكل الذي تدريه هو الذي تسمعه من أترابها وصديقاتها وقد يكنّ مصيبات فيما يتحدثن به
وقد يكنّ مخطئات . .
وانضم إلى جمع الأصدقاء صديق جديد فرحبوا به والتفوا حوله بعض الوقت ثم تفرقوا شيعا .
وكان مجدي الصديق الجديد شابّا مربوع القامة أسمر الوجه متألق ولم يكن وسيما وإنْ كان وجهه مقبولا
ولكنه كان خفيف الروح أنيق الثياب رزين الحركات شهيّ الحديث معسول الألفاظ .
ومرت أيام وأيام ومجدي يجتمع بأصدقائه وصديقاته الجدد كل ليلة ويذهب معهم أينما ذهبوا
ويضاحك هذا ويمازح ذاك ويتبادل الأحاديث مع البعض
ولكنه كان يفعل كل هذا في رزانة الرجل الذي عضّ على ناجزيه . .
وعجبت رجاء من أمر هذا الشاب الذي انضم إلى جماعتهم
فإنها لا ترى منه ما تراه من الشّبان الآخرين فكلهم يحومون حولها ويهمسون في أذنيْها بكلمات الحبّ والمناجاة
وكلهم يتزاحمون عليها ويتوددون إليها عداه وحده
ورأته ذات ليلة جالسا بمعزل عن الجميع فأقبلت عليه وحيّته ثم جلست إلى جانبه
وراحت تبادله حديثا عابرا وأخيرا طلبت منه أنْ يراقصها
فاعتذر لأنه لا يجيد الرقص وما كان أكذبه
لقد رأته راقصا وأعجبت برقصه
وهي اليوم تدعوه إلى الرقص فيرفض إنّها إهانة لا تحتمل
ولقد كانت تحسبه إنسانا مهذبا فإذا به فظّ أيوجّه لها هذا الشاب مثل هذه الإهانة
وهي الفتاة التي تنحني لها رؤوس الشّبان وتخضع لها القلوب ويقبل عليها منْ هم خير منه
ويرجون منها نظرة خاطفة أو بسمة خفيفة ويقنعون منها بهذا النزر القليل .
ووثبت من مكانها دون أنْ تلقي عليه نظرة
وانسابت إلى حيث تستطيع أنْ تتناسى هذه الإهانة
وأنّى لها ذلك . وأرسل مجدي في إثرها نظرة وعلى وجهه ابتسامة خفيفة . .
وما غمض لها جفْن وظلت دماؤها تغْلي وتفوْر كلما تذكرت موقف هذا الشاب الفظّ
وهي تدعوه فيرفض في جفاء وراحت تسائل نفسها :
- منْ يكون مجدي هذا إلى جانب غيره من الصحاب ؟
نعم إنه شاب خفيف الظل أنيق الهندام رزين في حديثه وحركاته حلو النبرات
ولكنه كان فظّا معها وهي لم تألْف مثل هذه الفظاظة
وهي الفتاة المدللة التي لم تعترض حياتها عقبة إلا واكتسحتها
وعجبت رجاء ما الذي يدفعه إلى أنْ يخصها دون غيرها بهذا النفور الذي يبدو واضحا !!
إنّ صلتها به تكاد تكون سطحية وما تبادلت معه من الأحاديث أكثر من تحية عابرة وكلمات جوْفاء فما الذي ينفّره منها ويحمله على توجيه مثل هذه الإهانة القاسية لها ؟
أتراه يبْغضها ولكن لمَ البغض وهي لم تسئ له ؟
وأعدّت العدة للنكاية به وغفت عيْناها ومجدي يشغل ذهنها . .
وكان عيد ميلادها قد اقترب وكان من عادتها كل عام أنْ تقيم حفلة شائقة تدعو إليها صواحبها فيقضون ليلة غراء .
وأعدّت بطاقات الدعوة وبعثت بها إلى جميع الصّديقات والأصدقاء وتعمدت إغفال مجدي وحلّ موعد الحفلة وتوافد المدعوون إلى قصْرها الفخم ،
ووقفت رجاء تستقبل ضيوفها وترحب بهم ثم حانت منها نظرة إلى باب البهو فإذا بها ترى مجدي قادما وحده يمشي مشيته الرزينة ،
وطفق مجدي يحيّ الأصدقاء ويصافحهم ويتحدث إلى هذا وذاك ورجاء واقفة مكانها تنتظر أنْ ينتهي من تحياته
لتصوّب إليه سهامها وتصيب قلبه كما أصاب قلبها وتدمي كبرياءه كما أدمى كبرياءها ،
وانقضت دقائق ثم التفت مجدي إلى ناحيتها ورفع حاجبيه كمنْ فوجئ بما يدْهشه وتقدم نحوها وهو يقول :
- معذرة يا رجاء فإني لم أرك وإلا لبادرت إليك وقدمت إليك تهنئتي بعيد ميلادك وعذري أنّ سحر ضيوفك غلّاب .
وامتقع لونها لهذه الكلمات التي نالت منها أيّ منال ولكنها تمالكت نفسها وقالت له :
- آسفة لم أبعث إليك بدعوتي ولم أذكرك .
قال :
- هذا لا يدْهشني منك ولم يحلْ دون قدومي لتقديم التهنئة .
ثم تغيرت نبرات صوته وصارت جادة وهو يقول :
- ولأنني راحل وقد تطوْل غيبتي فقد رأيت أنْ أحضر ولو من غير دعوة لأهنئك وأودعك . .
- راحل ولمَ ؟؟
- لا أريد إبداء السبب
- ولمَ ؟؟
- أظنّ أنّ من حقي الإفضاء بأموري إلى منْ أريد . .
وتركها دون أنْ ينتظر منها ردّا وهرعت رجاء إلى مخدعها في الطابق الثاني وهي تزعم لنفسها ولغيرها أنها ستأتي بمنديل
ولكنها في الواقع كانت بحاجة إلى الوحدة والانزواء وأغلقت الباب وراءها وهي تكاد تكون متبلدة الذّهن
ثم ألْفت نفسها لا تفكر في الحفلة ولا في مدعويها وإنما تفكر في ذلك المخلوق الذي يناصبها العداء ويبْغضها أشدّ الـبغض لعلة لا تدْريها
وراحت تسائل نفسها :
- لمَ هذا التجريح منه وماذا فعلت وأيّ ذنب جنت إنها تودّ أنْ تكون على علائق طيبة به وبغيره ولكنه منذ البداية ينْفر منها
وإنها لتودّ أنْ تصلح ذات البيْن بينها وبينه وطاف بذهنها قوله :
- إنه راحل وإنّ غيبته قد تطول . . راحل . .
وأحست بقلبها يشتدّ في خفقانه وإنّ شعورا محْزنا يطغى عليها
فعجبت من أمرها فماذا لو رحل ماذا ؟؟
وشعرت بالغرفة تشتدّ ظلمتها وبالعرق يتصبب من جبينها وبقلبها يشتدّ في وجيبه
وأحست أنّ فكرة رحيله تضايقها بل تحزنها حزنا لا تدرك له كنها ولا تفْهم له علة . .
ثم تفتق ذهنها فجأة وشعرت أنّ غشاوة تنزاح من عينيْها وترى حقيقة لم تكن تر صورتها
إنها حقيقة مخيفة رهيبة فهي تحبّ ذلك المخلوق الذي يزدريها ويهزأ بها
وتبلدت من هول هذه الحقيقة .
طالما نشدت الحبّ وابتغته فكان لا يواتيها وكان يفرّ منها
وها هو ذا كيوبيد يصيب اليوم قلبها بسهم ولكنه سهم مسموم
وليْتها كانت ستنعم حتى بود الذي تحبه وصداقته واحترامه حتى هذا ستحرم منه . .
وهبطت من غرفتها وهي تشعر أنْ ليس هذا عيد ميلادها ولكنه مأتم تقيمه على قلبها
وجالت بناظريْها في البهو الفسيح فرأته دون غيره من مدعويها وهو جالس بمعزل وحيدا يحتسي كأْسه
وعلى وجهه دلائل كمد دخيل . . وألْفت قدميْها تتجه نحوه
ثم جلست بجانبه وهي تحاول جهدها أنْ تخفي عواطفها .
قالت :
- ما لي أراك معتزل الجميع ؟؟
- أرى في العزلة خيرا لي .
- يخيّل إليّ أنّّ في نفسك كمدا دخيلا . .
فنظر إليها نظرة طويلة ثم قال :
- وهل أنت سعيدة ؟؟
فتجلدت وقالت :
- نعم سعيدة ولمَ أشقى ؟
- يسرّني أنك سعيدة .
- أيسرك هذا حقّا ؟؟
- لا شكّ .
- إذا كان يسرّك ما يسرّني فلمَ تتعمد إيذائي ؟؟
- أتعمد ؟؟! إني لا أتعمد شيئا .
- هل تحسب أنّي لا أرى ؟؟
- وماذا رأيت أيضا ؟؟
- إنك لعلة لا أدري كنهها لا تودّ وصْل الود بيني وبينك .
- وماذا أيضا ؟؟
- إنك حزين النفس وإنّ بك همّا دفينا يحنقك على الناس . وعليّ بصفة خاصة .
- ثم ؟؟
- ثم بودي أنْ أعرف هل صدقت فراستي وصدق ظني ؟؟
- أهذا كل ما رأيته
- نعم .
- إذن فأنت عمياء لا تبصرين شيئا أو بمعنى أدق بعيْن واحدة عوراء تريْن أشياء وتغيب عنك أشياء .
فذهلت رجاء ورددت قوله :
- عمياء !! عوراء !!.
- إني أقول ذلك مجازا فإنّ لك عيونا ساحرة ولكن .
- ولكن ماذا ؟؟ ؟
- ألا تودّين أنْ تسأليني ماذا رأيت أنا أيضا ؟؟
- حسنا ماذا رأيت ؟؟
- رأيت أنك فتاة جوْفاء .
ففتحت عيْناها دهشة وقالت :
- جوْفاء !!!؟؟ يجب أنْ أتجلّد لأسمع بقية حديثك الطريف .
- تحسنين بذلك صنعا ، وأنت فتاة لا يرجى منها خيرا وإنك كالفراشة لا استقرار لك ، أنت بإيجاز فتاة عصرية يلهو بها الإنسان ولا يحاول الاحتفاظ بها .
وكان وجهها يزداد تجهما واكفهرارا وعينيْها تزدادان اتساعا وحملقة فيه ودماؤها تشتدّ في غليانها وفورانها .
ثم ابتسم مجدي وقال :
- ورأيت كذلك أنك تحبينني وتحاولين كتمان ذلك الحب .
وروّعت لهذا القول وتحركت في جلْستها حركة الجفول ثم قالت :
- أنا أحبك ؟؟
- نعم .
ولم يسعْها إلا أنْ تضْحك ضحكة هستيرية جوْفاء . فقال :
- وعلى الرغم من هذه الضحكة الجوْفاء فإني لا أزال أكرر إنك تحبينني .
- وما الذي يدعوني إلى النكران ؟؟
- شعورك أنّي أحتقرك .
- أنت تحتقرني ومن أنت ؟؟
- لا شيء على وجه هذه الأرض ،، إنسان مغمور لا قيمة له ، إنسان مجهول من كل الناسِ ولكني رغمَ كل ذلك أحتقركِ
ورغمَ كل ذلك يهمكِ أنْ تقِفي على رأْيِ فيكِ ويهمكِ أنْ أُحبَّكِ كما تحبينني..
وكان وجهها قد تخضب ثم غاضت الدماء منه ثم همّت بالوقوف وقد ثارت وفارت دماؤها وغلى مرجل غضبها
ولم تستطع أنْ تحتمل منه المزيد لقد صبرت عساها تجتذبه إليها
ولكنه تمادى في وقاحته فهمّت أنْ تقف
غير أنّ مجدي قبض على رسغ يدها وقال :
- بل انتظري فإني لم أكملْ حديثي الذي أودّ أنْ أحدّثك به قبل رحيلي والذي تودّين أنْ أحدثك به .
وأوحت لها غريزتها ، غريزة حوّاء أنّ له صلة وثيقة بهذا الحديث ولكنّ حوّاء قالت :
- لا يهمني أنْ أسمع حديثك .
- بل أنت متلهفة لسماعه . .
- لولا اللياقة لطردْتك من داري .
- لك أنْ تفعلي ما تشائين بعد الانتهاء من حديثي .
ولم تجب رجاء وكان قلبها يشتدّ في وجيبه
وقال مجدي :
- رأيتك منذ أمد بعيد فأحببتك ، أحببتك الحبّ الثابت المكين ، الحبّ الذي يدكّ الجبال ويبقى هو قويّا على ظهْر الأرض .
وخفق قلبها خفقة السرور والفرح وتابع مجدي حديثه فقال :
- وما كنت تعلمين بحبّي لأنّ أنظارك لم تكن قد وقعت على وجهي بعد واتصلت بأصدقائك كي أتمكّن من أنْ أراك عن قرب ،
وما كنت أنوي أنْ أبوح لك بمشاعري لأني كنت ضعيف الأمل في قدرتي على تحريك قلبك
وتعليمه ألحان الحب ثم رأيتك فندمت ،
رأيتك فتاة تستهينين بكل التقاليد الكريمة ، فتاة يحاول كل شاّب أنْ يلهو بك ،
فتاة ألفت المغامرات ومراقصة هذا وذاك والسهر كل ليلة ،
رأيتك فتاة غير جديرة بحبّ كالذي أكنّه لك بين أضلاعي أنت فتاة يلهو بك الرجل لكنك لا تصلحين أنْ تكوني حبيبة لقلب مخلص ،
أنت ، أنت لست فتاة تُحَبين وتحبين ولكنك متعة تافهة فكلّ من يستهويه جمالك استطاع أنْ يروي غلته بمغازلتك ومناجاتك ومراقصتك ومجالستك ومسامرتك
وأنت لا تريْن في كل هذا خروجا على التقاليد التي يجب أنْ تراعيها ،
فتاة مثلك على الرغم من حذرك وحيطتك لهذا ندمت يا رجاء أنْ رأيتك عن قرب وليتني ظللت أحبك بعيدا عنك
وبعيدا عن هذه المناظر التي أدْمت قلبي ولهذا أنا راحل أعالج قلبي عله ينسى .
وكان صوته حزينا خافقا تختلج فيه نبرات الألم
وأحست رجاء أنها تكاد تشعر أنّ صوته يكاد يقْطر عبرات ودموعا
وكانت كل كلمة ينطق بها تفري قلبها وتوجعه
ولكنها لم تغْضب فقد تبدت لها الحقيقة في أوضح صورها
وتبينت صدق حديثه ولأنّ الذي يحدّثها هذا الحديث الموْجع الرهيب الذي لم تسمع مثله يوما ما حتى من أبويْها
هو حبيب قلبها الذي يحبها ويبادلها غراما بغرام .
وأحست رجاء بالعبرات تمْلأ عيْنيها وقالت في صوت مختنق :
- مجدي لست حانقة عليك لهذه الكلمات التي لم أسمعها حتى من أبوي
لقد حدّثْتني بصراحة مؤلمة ولكنها أزالت الغشاوة التي أُسدلت على عيْني هذا الأمد الطويل
وما أسدلتها يا مجدي برغبتي وبيدي
ولكنها البيئة والجو الذي أعيش فيه وأستنشقه وطالما ثارت نفسي من مثل هذه الحياة ،
وطالما وددت أنْ أعرف الحياة الصحيحة البريئة الجميلة ولكني كنت غرّيرة أجهل السبيل القويم فضللت الطريق الذي ساقتني ظروفي إليه حتى
جئت فوجهت قلبي إلى الحب وحتى حدثتني وكشفت لي عن عيوبي
وأنا أعترف بها جميعا ولكني أحبّ أنْ توقن أنّ الذنب لم يكن ذنبي .
وهَمَّّ أنْ يقاطعها فقبضت على يده وقالت :
- صبرا يا مجدي أمّا اليوم وقد كشفت لي عن هذه المساوئ وعلى الرغم من تنصلي منها
فإني أحسّ بخجل يندى له جبيني أمّا اليوم فقد عرفت كيف تحرك أوتار قلبي
فيعزف ألحان الحبّ فيرتّل أنشودة غرامك ،
أمّا اليوم وقد عرفت لنفسي غرضا وهدفا في الحياة وهو إرضاؤك والنزول عند رغباتك
والاحتفاظ بحبّك ومحاولة الظفر باحترامك ،
أمّا اليوم وقد تكشّفت لي مباهج الدنيا الدائمة لا تلك المباهج الجوْفاء
فإني أكون خليقة بلومك وتأنيبك بل واحتقارك وازدرائك
لو أن سرت بعد ذلك في تلك الطريق القديمة
ولتعلم يا منية الروح أني لم أتبين حقيقة حبِّي لك إلا منذ لحظات
وقبيْل مجيئي إليك الآن .
وتريثت لحظة ثم استطردت :
- وكل الذي أرجوه منك يا مجدي ألا ترْحل وسترى مني تغييرا يثير أعجابك
ويمحو احتقارك ويزيد من احترامك ومحبتك لي ،
مجدي ليس في هذه الدنيا من أرجو منه الصفح عن هذا الماضي المخْجل إلا إياك ،
وليس في الدنيا منْ أبغي محبته واحترامه ورضاه غيرك ،
فاصفح ولك أنْ تراني عن كثب فترة أخرى حتى ترى بعيْن رأسك أيّ تغيير أحدثه في نفسي حبّك .
وكانت لا تزال قابضة على يده وتشتدّ في قبضتها عليها بين الفيْنة والفيْنة ،
وكان هو ينظر إلى عيْنيها نظرة متفرسة ولم يسعْه أنْ يقول شيئا ،
فقد رأى الصدق يطلّ من عيْنيها فمدّ يده الأخرى ليحْجز على يدها بين يديْه ،
ثم قال :
- أحْسب أنّ هذه توبة صادقة ، هي أصدق توبة نطق بها إنسان وهل أنت حقّا تحبينني يا رجاء ؟؟
- إني أحبك يا مجدي وسأكون لك الحبيبة المخلصة الوفيّة التي تقدس رغباتك وتراها أمرا مقدسا،
وأنت هل انمحى ما في قلبك من سوء وانتظم حبّك ؟؟
- إنه كما كان قويّا عنيفا وما أردت بهذا الحديث إلا لأقذف بآخر سهم في جعبتي عسى أنْ أصلح ما أفسده الدهر .
- وهل ظفرت بغايتك ؟؟
- أجل .
- وأنا اليوم لا أحتفل بعيد ميلادي ولكني أحتفل بمولدي الجديد وما أبدع توافق المولديْن .
- وما رأيك لو جعلناه تاريخا لخطوبتنا كذلك ؟؟
- ألا ترى أنك مستعجل ألا يحسن أنْ تنتظر حتى تطمئنّ نفسك ؟؟
- حسبي ما سمعت ورأيت مطمئنا لي ولا تنسي أننا في عصر السرعة والإبطاء في هذا العصر غير مشكور ولا محمود ...
تمت
لنحسنْ توجيه أبنائنا فالدلال والغنى مفسدة ونقمة إنْ اجتمعا معا . . .
عمق البحر
ويطيب لي أن أهديها للغالية طوق الياسمين ،، وأقول لها :
ليتها تنال استحسانك يا رقيقة .
مع خالص الود للجميع ..