الخطأ من طبيعة ابن آدم؛ فهو مخلوق من طين، وركّبت فيه غرائز وشهوات، يميل
لها ميلاً فطرياً، وخلق الله عزَّ وجلَّ الشياطين الذين تمحضوا للشر
والفساد وإغواء بني آدم.
وقد يستقيم الإنسان ويصلح حتى يكون أفضل من الملائكة، وقد ينحط ويتردى حتى يصبح شراً من الشياطين في بعض أحواله.
وامتن الله عزَّ وجلّ على عباده بأن جعل من أسمائه جلَّ وعلا: الغفور،
الحليم التواب، واسع المغفرة، غافر الذنب، وقابل التوب، الرحمن، الرحيم،
الكريم الوهاب، الجواد؛ وبمقتضى ذلك يغفر الله لمن يشاء من عباده، ويتجاوز
عن سيئاتهم وذنوبهم وخطاياهم، إذا تابوا إليه وأنابوا ولم يصروا.
ومن أعظم ما شرعه الله لنا: (الاستغفار).
والاستغفار: طلب المغفرة، والمغفرة هي وقاية شر الذنوب مع سترها.
وقد أمر الله عزَّ وجلَّ نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستغفار في مواطن
كثيرة: قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ}محمد - 19
وجاء في الصحيح عن الْمُغِيرَة - رضي الله عنه - قال إِنْ كَانَ النبي -
صلى الله عليه وسلم - لَيَقُومُ لِيُصَلِّيَ حَتَّى تَرِمُ قَدَمَاهُ أَوْ
سَاقَاهُ، فَيُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ: (أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا ).
وكان يصوم حتى يُقال لا يفطر، وكان يقوم من الليل أكثره، أو نصفه، أو ثلثه،
وربما قام الليل كله إلا قليلاً، وكانت حياته ليه وسلم جهاداً متواصلاً
ودعوة وابتلاءً ومع ذلك قال له ربه: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}(19)سورة محمد. {وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ}(غافر-
55 )وقال له: {وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا
رَّحِيمًا} (النساء- 106 )
حالات الاستغفار
أولاً: حال التلبس بالعبادة أو فراغه منها فيقبل العبد على الاستغفار، يدفع به عن نفسه تبعة التقصير، أو معرة الاغترار.
وفي آخر ما أنزل على رسوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} (النصر- 3 )
وفي الصحيح أنه ما صلى صلاة بعد ما نزلت عليه هذه السورة إلا قال فيها:
(سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي). وذلك في نهاية أمره صلوات الله
وسلامه عليه، ولهذا فهم منه الصحابة أنه أَجَلُ رسول الله أعلمه الله إياه،
فأمره سبحانه بالاستغفار في نهاية أحواله وآخر أمره على ما كان عليه، وآخر
ما سمع من كلامه عند قدومه على ربه: (اللهم اغفر لي وألحقني بالرفيق
الأعلى). وكان يختم كل عمل صالح بالاستغفار: كالصوم والصلاة والحج والجهاد،
فإنه كان إذا فرغ منه وأشرف على المدينة قال: ( آيبون تائبون لربنا
حامدون). وشُرِع أن يُختم المجلس بالاستغفار، وإن كان مجلس خير وطاعة.
وشرع أن يختم العبد عمل يومه بالاستغفار، فمما يقول عند النوم: كما جاء في
الصحيحين من حديث أبي هريرة (باسمك رب وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي
فاغفر لها...).
ثانياً: بعد المعصية؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً
أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ
لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ
عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}(آل عمران- 135 )
وفي الحديث (مَا مِنْ عَبْدٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ ثُمَّ
يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إِلاَّ
غَفَرَ اللَّهُ لَهُ). ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ {وَالَّذِينَ إِذَا
فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ..}
الآيَةِ (1).
ثالثاً: حالة الغفلة، وكلنا خطاءون وكلنا غافلون وما أكثر الغافلين
الشاردين عن ربهم، ومن تأمل هدي سيد البشر وجده لا يفتر عن الاستغفار، وفي
حديث الأَغَرِّ المزني أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - ليه وسلم - قَالَ: (
إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قلبي وإني لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ في الْيَوْمِ
مِائَةَ مَرَّةٍ). (2). وقوله: ليُغان من الغَين، وهو ما يتغشى القلب من
الفترات والغفلات عن الذكر.
والاستغفار التام الموجب للمغفرة هو ما قارن عدم الإصرار كما مدح الله تعالى أهله، ووعدهم بالمغفرة.
قال أحد السلف: من لم يكن ثمرة استغفاره تصحيح توبته فهو كاذب في استغفاره. وفي ذلك يقول بعضهم:
استَغفِرُ اللهَ مِن اَستَغفِرُ اللهَ
مِن لَفظَةٍ بَدَرَت خالَفتُ مَعناها
وَكَيفَ أَرجُو إِجَابَاتِ الدُّعَاءِ وَقَد
سَدَدتُ بِالذَّنبِ عِندَ اللهِ مَجراها
فأفضل الاستغفار ما قرن به ترك الإصرار، وهو حينئذ يؤمل توبة نصوحًا وإن
قال بلسانه: (استغفر الله) وهو غير مقلع بقلبه، فهو داع لله بالمغفرة كما
يقول: (اللهم اغفر لي) فقد يرجى له الإجابة.
- وأفضل أنواع الاستغفار: أن يبدأ العبد بالثناء على ربه، ثم يثني
بالاعتراف بذنبه، ثم يسأل الله المغفرة، كما في حديث شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا
إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ
وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ
لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي
فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ) (3).