الحمد لله بارئ
النسم والصلاة والسلام على النبي الاكرم وعلى اله وصحبه وسلم وبعد اللهم آت
نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. يقول ابن حزم
رحمه الله في كتاب الاخلاق والسير عن غرائب اخلاق النفس
ينبغي للعاقل أن لا يحكم بما يبدو له من استرحام الباكي المتظلم وتشكيه،
وشدة تلويه وتقلبه وبكائه. فقد وقفت من بعض من يفعل هذا على يقين، أنه
الظالم المعتدي المفرط الظلم. ورأيت بعض المظلومين ساكن الكلام، معدوم
التشكي، مظهراً لقلة المبالاة، فيسبق إلى نفس من لا يحقق النظر أنه ظالم،
وهذا مكان ينبغي التثبيت فيه، ومغالبة ميل النفس جملة، وإن لا يميل المرء
مع الصفة التي ذكرنا ولا عليها، ولكن يقصد الإنصاف بما يوجبه الحق على
السواء.
من عجائب الأخلاق أن الغفلة مذمومة، وإن استعمالها محمود، وإنما ذلك لأن من
هو مطبوع على الغفلة يستعملها في غير موضعها، وفي حيث يجب التحفظ، وهو
مغيب عن فهم الحقيقة، فدخلت تحت الجهل فذمت لذلك. وأما المتيقظ الطبع، فإنه
لا يضع الغفلة إلا في موضعها الذي يذم فيه البحث والتقصي والتغافل، فهماً
للحقيقة، وإضراباً عن الطيش، واستعمالاً للحلم، وتسكيناً للمكروه، فلذلك
حمدت حالة التغافل وذمت الغفلة، وكذلك القول في إظهار الجزع وإبطانه، وفي
إظهار الصبر وإبطانه، فإن إظهار الجزع عند حلول المصائب مذموم، لأنه عجز
مظهره عن ملك نفسه، فأظهر أمراً لا فائدة فيه، بل هو مذموم في الشريعة،
وقاطع عما يلزم من الأعمال، وعن التأهب لما يتوقع حلوله مما لعله أشنع من
الأمر الواقع الذي عنه حدث الجزع. فلما كان إظهار الجزع مذموماً، كان إظهار
ضده محموداً، وهو إظهار الصبر، لأنه ملك للنفس، واطراح لما لا فائدة فيه،
وإقبال على ما يعود وينتفع به في الحال، وفي المستأنف. وأما استبطان الصبر
فمذموم، لأنه ضعيف في الحسن، وقسوة في النفس، وقلة رحمة، وهذه أخلاق سوء لا
تكون إلا في أهل الشر، وخبث الطبيعة، وفي النفوس السبعية الرديئة.
فلما كان ما ذكرنا يقبح، كان ضده محموداً، وهو استبطان الجزع لما في ذلك من
الرحمة والشفقة والفهم، بقدر الرزية، فصح بهذا أن الاعتدال هو أن يكون
المرء جزوع النفس، صبور الجسد، بمعنى أنه لا يظهر في وجهه ولا في جوارحه
شيء من دلائل الجزع. ولو علم ذو الرأي الفاسد ما استضر به من فساد تدبيره
في السالف، لأنجح بتركه استعماله فيما يستأنف، وبالله التوفيق.