خطبة إبليس لأهل النار
يقول الله تعالى " وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم،ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي، إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذابٌ أليم".
هذه الآية تسمى خطبة إبليس
ذكر في القرطبي: أن إبليس يقف يوم القيامة خطيباً في جهنم على منبر من نار يسمعه الخلائق جميعاً. وقيل أنه يخطب خطبته هذه بعدما يسمع أهل النار يلومونه ويقرعونه على أن أغواهم حتى دخلوا النار.
فيقول لهم: إن الله وعدكم وعد الحق أي وعدكم وعداً حقاً بأن يثيب المطيع ويعاقب العاصي فوفى لكم وعده، ووعدتكم فأخلفتكم أي وعدتكم ألا بعث ولا ثواب ولا عقاب فكذبتكم وأخلفتكم الوعد، وما كان لي عليكم من سلطان أي لم يكن لي قدرة وتسلط عليكم إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي أي بالوسوسة والتزيين فاستجبتم لي باختياركم،فلا تلوموني ولوموا أنفسكم أي لا ترجعوا باللوم علي اليوم ولكن لوموا أنفسكم فالذنب ذنبكم ، ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي أي ما أنا بمغيثكم ولا أنتم بمغيثي من عذاب الله، إني كفرت بما أشركتمون من قبل أي كفرت بإشراككم لي مع الله في الطاعة، إن الظالمين لهم عذاب أليم أي أن المشركين لهم عذاب مؤلم. هكذا يكشف إبليس عن عداوته لابن آدم ويعترف بخذلانه له ليزيده حسرة وندماً.
العاتب
وجاء في تفسير ابن كثير
يخبر تعالى عما خطب به إبليس [لعنه الله] أتباعه، بعدما قضى الله بين عباده، فأدخل المؤمنين الجنات، وأسكن الكافرين الدركات، فقام فيهم إبليس -لعنه الله -حينئذ خطيبا ليزيدهم حزنا إلى حزنهم وغَبنا إلى غبْنهم، وحسرة إلى حسرتهم، فقال: { إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ } أي: على ألسنة رسله، ووعدكم في اتباعهم النجاة والسلامة، وكان وعدًا حقا، وخبرا صدقا، وأما أنا فوعدتكم وأخلفتكم، كما قال الله تعالى: { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا } [النساء: 120].
ثم قال: { وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ } أي: ما كان لي عليكم فيما دعوتكم إليه من دليل ولا حجة على صدق ما وعدتكم به، { إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي } بمجرد ذلك، هذا وقد أقامت عليكم الرسل الحجج والأدلة الصحيحة على صدق ما جاءوكم به، فخالفتموهم فصرتم إلى ما أنتم فيه، { فَلا تَلُومُونِي } اليوم، { وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ } فإن الذنب لكم، لكونكم خالفتم الحجج واتبعتموني بمجرد ما دعوتكم إلى الباطل، { مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ } أي: بنافعكم ومنقذكم ومخلصكم مما أنتم فيه، { وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } أي: بنافعي بإنقاذي مما أنا فيه من العذاب والنكال، { إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ }
قال قتادة: أي بسبب ما أشركتمون من قبل.
وقال ابن جرير: يقول: إني جحدت أن أكون شريكا لله، عز وجل.
وهذا الذي قال هو الراجح كما قال تعالى: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [الأحقاف: 5، 6]، وقال: { كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } [مريم: 82].
وقوله: { إِنَّ الظَّالِمِينَ } أي: في إعراضهم عن الحق واتباعهم الباطل { لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
والظاهر من سياق الآية: أن هذه الخطبة تكون من إبليس بعد دخولهم النار، كما قدمنا. ولكن قد ورد في حديث رواه ابن أبي حاتم -وهذا لفظه -وابن جرير من رواية عبد الرحمن بن زياد: حدثني دخين الحَجْري، عن عقبة بن عامر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا جمع الله الأولين والآخرين، فقضى بينهم، ففرغ من القضاء، قال المؤمنون: قد قضى بيننا ربنا، فمن يشفع لنا؟ فيقولون: انطلقوا بنا إلى آدم -وذكر نوحا، وإبراهيم، وموسى، وعيسى -فيقول عيسى: أدلكم على النبي الأمي. فيأتوني، فيأذن الله لي أن أقوم إليه فيثور [من] مجلسي من أطيب ريح شمها أحد قط، حتى آتي ربي فيشفعني، ويجعل لي نورا من شعر رأسي إلى ظفر قدمي، ثم يقول الكافرون هذا: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم، فمن يشفع لنا؟ ما هو إلا إبليس هو الذي أضلنا، فيأتون إبليس فيقولون: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم، فقم أنت فاشفع لنا، فإنك أنت أضللتنا. فيقوم فيثور من مجلسه من أنتن ريح شمها أحد قط، ثم يعظم نحيبهم {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ } وهذا سياق ابن أبي حاتم، ورواه ابن المبارك عن رِشْدين بن سعد، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن دُخَيْن عن عُقْبَة، به مرفوعا .