من اعتز بغير الله ذل
اقتضت حكمة الله أنه ما ارتفع شيء مِن الدنيا إلاَّ وضعه الله
قال مَن لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم : حقٌّ على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلاَّ وَضَعَه . رواه البخاري .
واقتضت حكمته أنَ مَن اعتزّ بِغير الله ذلّ .
روى الإمام أحمد في " الزهد " من طريق عن جبير بن نفير قال : لَمَّا فُتحت
قبرص وفُرِّق بين أهلها ، فبكى بعضهم إلى بعض ، رأيت أبا الدرداء جالسا
وحده يبكي فقلت : يا أبا الدرداء ما يُبكيك في يوم أعزّ الله فيه الإسلام
وأهله ؟ قال : ويحك يا جبير ! ما أهون الخلق على الله إذا هُم تركوا أمره
، بينا هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمْر الله عز وجل فصاروا إلى
ما ترى .
وقال جعفر بن محمد : مَن أخْرَجَه الله مِن ذُلّ الْمَعْصِية إلى عِزّ
التَّقْوى أغْنَاه الله بِلا مَال ، وأعَزّه بلا عَشِيرَة ، وآنَسَه بلا
أنِيس .
وقال يحيى بن أبي كَثير : كَان يُقَال : مَا أكْرَم العِبَاد أنْفُسَهم
بِمِثْل طَاعَة الله ، ولا أهَانَ العِبَاد أنْفُسَهم بِمِثْل مَعْصِيَة
الله .
وقال الحسن البصري : أبَى الله عَزَّ وَجَلَّ إلاَّ أن يُذِلّ مَن عَصَاه .
قال القرطبي : فَمَن طَلَب العِزَّة مِن الله وصَدَقَه في طَلَبها
بافْتِقَار وذُلّ وسُكُون وخُضُوع وَجَدَها عِنْده - إن شاء الله - غير
مَمْنُوعَة ولا مَحْجُوبَة عنه . قال صلى الله عليه وسلم : مَن تَواضع لله
رَفَعه الله . ومَن طَلبها مِن غَيره وَكَلَه إلى مَن طَلَبها عِنده . وقد
ذَكَرَ قَومًا طَلَبُوا العِزَّة عند مَن سِواه ، فقال : (الَّذِينَ
يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ
أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ
جَمِيعًا) ، فأنْبَأك صَرِيحا لا إشْكَال فيه أنَّ العِزَّة له يُعِزّ
بِها مَن يَشاء ، ويُذِلّ مَن يَشاء .
وقال : فَمَن كَان يُرِيد العِزَّة لِيَنَال الفَوْز الأكْبَر ويَدخُل
دَار العِزَّة - ولله العِزَّة - فَلْيَقْصد بالعِزَّة الله سبحانه
والاعْتِزَاز به ، فإنه مَن اعْـتَزّ بالعَبْد أذَلَّه الله ، ومَن
اعْـتَزّ بِالله أعَـزَّه الله . اهـ .
ومَن اعتزّ بالكفّار أذلّه الله ، وأذاقه الذلّ والصَّغار على أيديهم !
ذلك أن حكمة الله اقتضَت أن مَن أعان ظالِمَا سلّطه الله عليه .
قال الثعلبي : والذين آمَنُوا بألْسِنَتِهم مِن غَير مُوَاطَأة قُلُوبِهِم
كَانوا يَتَعَزَّزُون بِالْمُشْرِكِين ، كَمَا قَال تعالى : (الَّذِينَ
يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ
أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ
جَمِيعًا) . اهـ .
وقال الزمخشري : الْمَذَلَّة والْهَوَان للشَّيْطَان وذَوِيه مِن الكَافِرِين والْمُنَافِقِين . اهـ .
واعتزت أُمَم بِقُوّتَها فأذَلَّها الله ، وأتَى الله بُنْيَانهن مِن القواعد فَخَرَّ عليهم السقف ..
(قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ
مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ
وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) ..
وتلك مصارِع الأُمم شاهدة على أن مَن يُغالِب اله يُغلَب ، وأن مَن اعتَزّ بغير الله ذلّ ..
تلك " عاد " التي اعْتَزَّت بِقُوَّتِها ، فقالت بكبرياء وتَجَبُّر :
(مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) فأتاهم الجواب : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ
اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا
بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) وكانت عاقبة الطُّغيان والْجَبَرُوت :
(فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ
لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ
الآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) ..
أهلكهم الله بأخفّ الأشياء وألطفها ، وهي الريح ، إلاّ أنها كانت ريحا عاتية ..
وأما " ثمود " فاعْتَدّوا بِبُنيانهم ، وقد ذَكّرهم نَبِيُّهم عليه الصلاة
والسلام بِقوله : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ
عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا
وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلاءَ اللَّهِ وَلا
تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) .
وبَلَغ بهم الاعتداد بِقُوّتهم أن اسْتَمْطَروا العذاب ، فقالوا : (يَا
صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) فكان
هلاكهم بِالصيحة : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي
دَارِهِمْ جَاثِمِينَ) .
واعْتَزّ شيخ الطُّغاة " فِرعون " بِكثرة قومه ، وبأن أنهار مصر تجري مِن
تحته .. فأخرجه الله منها ذليلا صاغِرا .. وأغرقه في الماء الذي كان يزعم
أنه يملكه !
وأوْرَث الله بني إسرائيل ما كان فيه فرعون (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا
فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ) ،
فما كان لهم مِن عزاء ، ولا كان عليهم مِن باكٍ .. (فَمَا بَكَتْ
عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ) .
وتحصّنت اليهود في حصونها ، وظنّوا أن لهم فيها مَنَعَة .. فأتاهم الله من حيث لم يحت سِبوا ..
(وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ
اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ
الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي
الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) .
واعْتَزَّت قُريش بِكَثْرتها ، فقالت : (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً
وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) ، فأذَلّها الله حتى جاءت
تستغيث بالنبي صلى الله عليه وسلم وتَسْأله الطعام .. كما في قصة إسلام
ثُمَامة بن أثال رضي الله عنه ، وهي مُخرّجة في الصحيحين .
ولعلها أثَر دعوته صلى الله عليه وسلم : " اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ " رواه البخاري ومسلم .
قال البغوي : فابْتَلاهم الله عز وجل بالقَحْط حتى أكَلُوا الكِلاب والْجِيَف . اهـ .
وفيهم قال الله عَزّ وَجَلّ : (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ
آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ
فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ
وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) .
قال ابن كثير : هذا مثل أريد به أهل مكة . اهـ .
ومَن اعتز بالكثرة ذلّ
ولقد عاب الله على أصحاب نَبِيِّه اغترارهم بِالكثرة ، فقال : (وَيَوْمَ
حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ
شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ
مُدْبِرِينَ) .
وشواهد التاريخ المعاصر أكثر مِن أن تذكر؛ فَرَأس الكُفْر وحاملة لواء
الصليب ومُجَدَدِّة الحروب الصليبية اعْتَدَّت بِكَثرت جيوشها وقُوّتها ،
فَأَبَى الله إلاَّ أن يُرْغِم أنْفَها على يَد أحْدَث وأفْقَر دَولة ،
فأرْغَم الله أنْفَها في أفغانستان ، في حين كانت تتصور انها في نُزهة أو
في حَفل لَهْو وشُرب ! وَتَخَيَّل سَاسَتها وقُوّاد جُيوشها أن المسألة لا
تُجَاوز وَقت احْتِساء كاس مِن الْخَمر !!
وبعد أن أرْغَم الله أنْفَها في مُدّة تَزيد على تِسع سَنوات لم تستطع
معها إحْرَاز أيّ تَقَدُّم رَغْم استخدامها لكل الوسائل والطُّرُق
والأساليب ، وقَتْل الابرياء ، وسَفْك الدماء ..
ثم تُعْلِن – راغِمَة - أنها فَشِلَت في تَحقيق الأمن في أفغانستان .. نعم
... عَجِزَت أمريكا عن تحقيق ما حَقَّقه رِجال طالبان الفقراء العُزَّل في
مُدّة سنتين !
وتقف أمريكا لِتُعْلِن إرْغَام أنْفِها بأظْهَر صُوَرِه : رَغبتها في مُفاوضة رجال الجبال الذين أرْغَمُوا أنفها !!
• [/size](ويسعى الاميركيون في استمالة قادة طالبان ومقاتليها، وتفادي تقديم تنازلات سياسية كبيرة أو تقويض الدستور الأفغاني) [صحيفة الحياة - الاربعاء, 03 فبراير
ويطلب الحاكم الصُّوري في أفغانستان ! الـتَّدَخُّل مِن أجل قبول " طالبان " في المفاوضات
وحين أمْضَت أمريكا في أفغانستان ما أمْضَاه الرُّوس قَبْلها في مَقبرة
الغُزَاة ومَرْغَمَة أُنُوف الطُّغَاة اعْلَنَت كما أعْلَن سَلَفها أن
الإنسحاب هو الحل الوحيد للخروج مِن الْمَأزَق ، والسبيل الأوْحَد للخَلاص
!
(يأتي هذا وسط ارتفاع
في أعداد القتلى في صفوف قوات الاحتلال في أفغانستان بعد مرور أكثر من تسع
سنوات على احتلال أفغانستان ، وبعد أن مُنِيت بِحَصيلة قياسية مِن الخسائر
خلال العام الجاري)
ومِن قَبْل أرْغَم الله أنُوف الرُّوس في أفغانستان ، وخَرَجَت روسيا
تَجُرّ أذْيَال الهزيمة ، وبَاعَتْ حُلَفاءها بِالتُّراب وسَلامة الكِلاب
!!
حقا .. إنها " فضيحة الدهر " .. كما قال الشيخ سَفر وفقه الله وعافاه ، أن
تَقِف أمريكا عاجزة ذليلة مُرغمة الأنْف أمام عُصبَة قليلة .. تحصد أثر
الهزائم ، وتنقل الجثث ! لم تستطع تحقيق نصْر يُذكر !
وأبَى الله إلاَّ أن يُرْغِم أنْف أمريكا مَرّة ثانية فَخَاضَت حَرْبا لا
هَوَادة فيها على العراق ، فَغَاصَت في حَمَّامات دم ، وأوْحَال إجْرام لم
تستطع أن تَخْرُج منها بِمَاء الوَجْه !
فكانت حصيلة الْحَرْبَين (أفغانستان والعراق) ما يزيد على خمسة وثلاثين ألف قَتيل !
ورأينا سقوط أئمة الكفر ورؤس الطواغيت .. وقادة البغي والقمع . .رغم تترّسهم بالحصون والأطواق الأمنية !
وعلى سبيل المثال : المثال الحيّ الذي يَنْضَح بالعِبَر ، وهو سقوط إمام
مِن أئمة الكفر وقائد مِن قادة الْحَرْب على الإسلام : إذ كان قد نَجَح في
بناء جهاز أمني بوليسي تضاعف قوامه أربع مرات خلال العشرين سنة الماضية ،
حتى أصبح قوامه : 120 ألف عنصر .
ومع ذلك لم يُغنوا عنه من الله شيئا ! بل وخَرَج طريدا شَريدا لا يَجِد مَن يُؤويه .. حتى أئمة الكُفر وأولياؤه لا يُرحِّبون به !
حاله معهم كَحَال إبليس (إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ
قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ
(16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا
وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) .
وذلك أنَ مَن غالَب الله غُلِب .. مهما تَتَرَّس وتَحَرَّس وتَفَرْعَن !
لَمّا جِيءَ بِحُيَيّ بْنِ أَخْطَب إلَى النبي صلى الله عليه وسلم
وَوَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيْهِ قَالَ : أَمَا وَاَللّهِ مَا لُمْت نَفْسِي
فِي مُعَادَاتِك ، وَلَكِنْ مَنْ يُغَالِبْ اللّهَ يُغْلَبْ ! ثُمّ قَالَ
: يَا أَيّهَا النّاسُ لا بَأْسَ قَدَرُ اللّهِ وَمَلْحَمَةٌ كُتِبَتْ
عَلَى بَنِي إسْرَائِيل ، ثُمّ حُبِسَ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ .
ومهما طال ليل الظُّلْم .. فإن صُبْح العَدْل والانْتِصَاف منهم قَريب ..
ومهما طالت أيام الظالمين .. فإن نهايتهم وَشِيكة وأيامهم معدودة ..
ومهما قَويَت شوكة الطُّغيان .. فإنها مَكْسُورَة مَدْحُورة بإذن الله ..
وعُقبى الظُّلْم وَخِيمة ..
كأني بِمشهد يحيى البرمكي مُكَبَّلا بالقيود ، مطروحا في السجن
فيُسأله ابنه :
يا أبتِ بعد الأمر والنهي والنعمة صِرْنا إلى هذا الحال ؟!
فردّ الأب وقال بِنَظْرة ثاقبة تخطّت حدود القيد والسجن :
يا بنى دعوة مظلوم سَرَتْ بليل ونحن عنها غافلون ، ولم يغفل الله عنها .
ثم أنشأ يقول :
رب قوم قد غَدَوا في نعمةٍ *** زَمَنًا والدَّهرُ رَيانُ غَدَق
سَكَتَ الدهرُ زَمَانًا عنهمُ *** ثم أبكاهم دَمًا حين نَطَق
ونهاية الظُّلْم عُرْس المظلومين وأفراحهم .. (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)
مآتم الظلم تَتْلُوهُنّ أعياد = إياكِ أن تجزعي إياكِ بغدادُ
قد استبدّ بأهليك الطُّغَاة أذى = وراح يمتحن الأحرارَ جلاّدُ
حتى تَهَدّم صَرح الظلم وانكفأت = قِدْر الفساد وأهل الظلم قد بادوا
نهاية الظُّلْم يا بغداد واحدةٌ = الله والحق والتاريخ أشهادُ
وهذا الحدث الماثل أمام العيان .. مليء بالعِبَر والدروس ..
فهل مِن مُعتبر ؟
ومِن أبرز الدروس .. أن مَن يضحك أخيرا يضحك كثيرا .. وأن العبرة بالنهايات ..
وأن تتبّع عورات الناس وتكميم أفواههم وكبت حُرّياتهم ومراقبة كل
تصرّفاتهم .. تؤدِّي إلى إفساد الناس .. مِن حيث أراد الحاكم الاحتياط
والإصلاح !
قال معاوية رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنك
إن اتّبعت عورات الناس أفْسَدتهم ، أو كِدْت أن تُفْسِدهم . فقال أبو
الدرداء : كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم نَفَعَه
الله تعالى بها . رواه أبو داود بإسناد صحيح .
وأن ما نَسْمَعه مِن أرقام تسعينية ! تتوّج بها كل انتخابات ! لِتُعلِن
فوز الحزب الحاكم .. ما هي إلاّ وَهْم وخِداع .. كَشَفَتْ زيفَه الأيام ..
فتلك الجموع التي تخرج بين حين وآخر غاضبة .. تُعلِن حقيقة الأرقام ، ونتائج الانتخابات !
وفَرْق – أيّما فَرْق – بَيْن مَن تتمسّك به الشعوب لِعَدْله وقيامه بما
وَجب عليه في سُدّة الْحُكم ، وبين مَن تقذف به الشعوب في زبالات التاريخ !
وأن الظالِم يَضرّ غيره كما يَضرّ نفسه .
قال يحيى بن أبي كثير : أمَرَ رَجُل بِالْمَعْرُوف ونَهَى عن الْمُنْكَر .
فَقَال له رَجُل : عليك بِنَفْسِك ، فإنَّ الظَّالِم لا يَضُرّ إلاَّ
نَفْسَه . فقال أبو هريرة : كَذَبْت والله الذي لا إله إلاَّ هو ! ثم قال
: والذي نفسي بِيَدِه إنَّ الْحُبَارَى لَتَمُوت هَزْلاً في وَكْرِها
بِظُلْم الظَّالِم .
وأن الظالِم سيشرب في الكأس التي سَقَى بها غيره .. فَمُقِلّ ومُسْتَكْثر .. بِقَدْر ما سَقَى سيُسْقَى !
اقتضت حكمة الله أنه ما ارتفع شيء مِن الدنيا إلاَّ وضعه الله
قال مَن لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم : حقٌّ على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلاَّ وَضَعَه . رواه البخاري .
واقتضت حكمته أنَ مَن اعتزّ بِغير الله ذلّ .
روى الإمام أحمد في " الزهد " من طريق عن جبير بن نفير قال : لَمَّا فُتحت
قبرص وفُرِّق بين أهلها ، فبكى بعضهم إلى بعض ، رأيت أبا الدرداء جالسا
وحده يبكي فقلت : يا أبا الدرداء ما يُبكيك في يوم أعزّ الله فيه الإسلام
وأهله ؟ قال : ويحك يا جبير ! ما أهون الخلق على الله إذا هُم تركوا أمره
، بينا هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمْر الله عز وجل فصاروا إلى
ما ترى .
وقال جعفر بن محمد : مَن أخْرَجَه الله مِن ذُلّ الْمَعْصِية إلى عِزّ
التَّقْوى أغْنَاه الله بِلا مَال ، وأعَزّه بلا عَشِيرَة ، وآنَسَه بلا
أنِيس .
وقال يحيى بن أبي كَثير : كَان يُقَال : مَا أكْرَم العِبَاد أنْفُسَهم
بِمِثْل طَاعَة الله ، ولا أهَانَ العِبَاد أنْفُسَهم بِمِثْل مَعْصِيَة
الله .
وقال الحسن البصري : أبَى الله عَزَّ وَجَلَّ إلاَّ أن يُذِلّ مَن عَصَاه .
قال القرطبي : فَمَن طَلَب العِزَّة مِن الله وصَدَقَه في طَلَبها
بافْتِقَار وذُلّ وسُكُون وخُضُوع وَجَدَها عِنْده - إن شاء الله - غير
مَمْنُوعَة ولا مَحْجُوبَة عنه . قال صلى الله عليه وسلم : مَن تَواضع لله
رَفَعه الله . ومَن طَلبها مِن غَيره وَكَلَه إلى مَن طَلَبها عِنده . وقد
ذَكَرَ قَومًا طَلَبُوا العِزَّة عند مَن سِواه ، فقال : (الَّذِينَ
يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ
أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ
جَمِيعًا) ، فأنْبَأك صَرِيحا لا إشْكَال فيه أنَّ العِزَّة له يُعِزّ
بِها مَن يَشاء ، ويُذِلّ مَن يَشاء .
وقال : فَمَن كَان يُرِيد العِزَّة لِيَنَال الفَوْز الأكْبَر ويَدخُل
دَار العِزَّة - ولله العِزَّة - فَلْيَقْصد بالعِزَّة الله سبحانه
والاعْتِزَاز به ، فإنه مَن اعْـتَزّ بالعَبْد أذَلَّه الله ، ومَن
اعْـتَزّ بِالله أعَـزَّه الله . اهـ .
ومَن اعتزّ بالكفّار أذلّه الله ، وأذاقه الذلّ والصَّغار على أيديهم !
ذلك أن حكمة الله اقتضَت أن مَن أعان ظالِمَا سلّطه الله عليه .
قال الثعلبي : والذين آمَنُوا بألْسِنَتِهم مِن غَير مُوَاطَأة قُلُوبِهِم
كَانوا يَتَعَزَّزُون بِالْمُشْرِكِين ، كَمَا قَال تعالى : (الَّذِينَ
يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ
أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ
جَمِيعًا) . اهـ .
وقال الزمخشري : الْمَذَلَّة والْهَوَان للشَّيْطَان وذَوِيه مِن الكَافِرِين والْمُنَافِقِين . اهـ .
واعتزت أُمَم بِقُوّتَها فأذَلَّها الله ، وأتَى الله بُنْيَانهن مِن القواعد فَخَرَّ عليهم السقف ..
(قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ
مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ
وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) ..
وتلك مصارِع الأُمم شاهدة على أن مَن يُغالِب اله يُغلَب ، وأن مَن اعتَزّ بغير الله ذلّ ..
تلك " عاد " التي اعْتَزَّت بِقُوَّتِها ، فقالت بكبرياء وتَجَبُّر :
(مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) فأتاهم الجواب : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ
اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا
بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) وكانت عاقبة الطُّغيان والْجَبَرُوت :
(فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ
لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ
الآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) ..
أهلكهم الله بأخفّ الأشياء وألطفها ، وهي الريح ، إلاّ أنها كانت ريحا عاتية ..
وأما " ثمود " فاعْتَدّوا بِبُنيانهم ، وقد ذَكّرهم نَبِيُّهم عليه الصلاة
والسلام بِقوله : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ
عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا
وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلاءَ اللَّهِ وَلا
تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) .
وبَلَغ بهم الاعتداد بِقُوّتهم أن اسْتَمْطَروا العذاب ، فقالوا : (يَا
صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) فكان
هلاكهم بِالصيحة : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي
دَارِهِمْ جَاثِمِينَ) .
واعْتَزّ شيخ الطُّغاة " فِرعون " بِكثرة قومه ، وبأن أنهار مصر تجري مِن
تحته .. فأخرجه الله منها ذليلا صاغِرا .. وأغرقه في الماء الذي كان يزعم
أنه يملكه !
وأوْرَث الله بني إسرائيل ما كان فيه فرعون (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا
فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ) ،
فما كان لهم مِن عزاء ، ولا كان عليهم مِن باكٍ .. (فَمَا بَكَتْ
عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ) .
وتحصّنت اليهود في حصونها ، وظنّوا أن لهم فيها مَنَعَة .. فأتاهم الله من حيث لم يحت سِبوا ..
(وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ
اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ
الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي
الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) .
واعْتَزَّت قُريش بِكَثْرتها ، فقالت : (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً
وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) ، فأذَلّها الله حتى جاءت
تستغيث بالنبي صلى الله عليه وسلم وتَسْأله الطعام .. كما في قصة إسلام
ثُمَامة بن أثال رضي الله عنه ، وهي مُخرّجة في الصحيحين .
ولعلها أثَر دعوته صلى الله عليه وسلم : " اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ " رواه البخاري ومسلم .
قال البغوي : فابْتَلاهم الله عز وجل بالقَحْط حتى أكَلُوا الكِلاب والْجِيَف . اهـ .
وفيهم قال الله عَزّ وَجَلّ : (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ
آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ
فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ
وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) .
قال ابن كثير : هذا مثل أريد به أهل مكة . اهـ .
ومَن اعتز بالكثرة ذلّ
ولقد عاب الله على أصحاب نَبِيِّه اغترارهم بِالكثرة ، فقال : (وَيَوْمَ
حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ
شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ
مُدْبِرِينَ) .
وشواهد التاريخ المعاصر أكثر مِن أن تذكر؛ فَرَأس الكُفْر وحاملة لواء
الصليب ومُجَدَدِّة الحروب الصليبية اعْتَدَّت بِكَثرت جيوشها وقُوّتها ،
فَأَبَى الله إلاَّ أن يُرْغِم أنْفَها على يَد أحْدَث وأفْقَر دَولة ،
فأرْغَم الله أنْفَها في أفغانستان ، في حين كانت تتصور انها في نُزهة أو
في حَفل لَهْو وشُرب ! وَتَخَيَّل سَاسَتها وقُوّاد جُيوشها أن المسألة لا
تُجَاوز وَقت احْتِساء كاس مِن الْخَمر !!
وبعد أن أرْغَم الله أنْفَها في مُدّة تَزيد على تِسع سَنوات لم تستطع
معها إحْرَاز أيّ تَقَدُّم رَغْم استخدامها لكل الوسائل والطُّرُق
والأساليب ، وقَتْل الابرياء ، وسَفْك الدماء ..
ثم تُعْلِن – راغِمَة - أنها فَشِلَت في تَحقيق الأمن في أفغانستان .. نعم
... عَجِزَت أمريكا عن تحقيق ما حَقَّقه رِجال طالبان الفقراء العُزَّل في
مُدّة سنتين !
وتقف أمريكا لِتُعْلِن إرْغَام أنْفِها بأظْهَر صُوَرِه : رَغبتها في مُفاوضة رجال الجبال الذين أرْغَمُوا أنفها !!
• [/size](ويسعى الاميركيون في استمالة قادة طالبان ومقاتليها، وتفادي تقديم تنازلات سياسية كبيرة أو تقويض الدستور الأفغاني) [صحيفة الحياة - الاربعاء, 03 فبراير
ويطلب الحاكم الصُّوري في أفغانستان ! الـتَّدَخُّل مِن أجل قبول " طالبان " في المفاوضات
وحين أمْضَت أمريكا في أفغانستان ما أمْضَاه الرُّوس قَبْلها في مَقبرة
الغُزَاة ومَرْغَمَة أُنُوف الطُّغَاة اعْلَنَت كما أعْلَن سَلَفها أن
الإنسحاب هو الحل الوحيد للخروج مِن الْمَأزَق ، والسبيل الأوْحَد للخَلاص
!
(يأتي هذا وسط ارتفاع
في أعداد القتلى في صفوف قوات الاحتلال في أفغانستان بعد مرور أكثر من تسع
سنوات على احتلال أفغانستان ، وبعد أن مُنِيت بِحَصيلة قياسية مِن الخسائر
خلال العام الجاري)
ومِن قَبْل أرْغَم الله أنُوف الرُّوس في أفغانستان ، وخَرَجَت روسيا
تَجُرّ أذْيَال الهزيمة ، وبَاعَتْ حُلَفاءها بِالتُّراب وسَلامة الكِلاب
!!
حقا .. إنها " فضيحة الدهر " .. كما قال الشيخ سَفر وفقه الله وعافاه ، أن
تَقِف أمريكا عاجزة ذليلة مُرغمة الأنْف أمام عُصبَة قليلة .. تحصد أثر
الهزائم ، وتنقل الجثث ! لم تستطع تحقيق نصْر يُذكر !
وأبَى الله إلاَّ أن يُرْغِم أنْف أمريكا مَرّة ثانية فَخَاضَت حَرْبا لا
هَوَادة فيها على العراق ، فَغَاصَت في حَمَّامات دم ، وأوْحَال إجْرام لم
تستطع أن تَخْرُج منها بِمَاء الوَجْه !
فكانت حصيلة الْحَرْبَين (أفغانستان والعراق) ما يزيد على خمسة وثلاثين ألف قَتيل !
ورأينا سقوط أئمة الكفر ورؤس الطواغيت .. وقادة البغي والقمع . .رغم تترّسهم بالحصون والأطواق الأمنية !
وعلى سبيل المثال : المثال الحيّ الذي يَنْضَح بالعِبَر ، وهو سقوط إمام
مِن أئمة الكفر وقائد مِن قادة الْحَرْب على الإسلام : إذ كان قد نَجَح في
بناء جهاز أمني بوليسي تضاعف قوامه أربع مرات خلال العشرين سنة الماضية ،
حتى أصبح قوامه : 120 ألف عنصر .
ومع ذلك لم يُغنوا عنه من الله شيئا ! بل وخَرَج طريدا شَريدا لا يَجِد مَن يُؤويه .. حتى أئمة الكُفر وأولياؤه لا يُرحِّبون به !
حاله معهم كَحَال إبليس (إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ
قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ
(16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا
وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) .
وذلك أنَ مَن غالَب الله غُلِب .. مهما تَتَرَّس وتَحَرَّس وتَفَرْعَن !
لَمّا جِيءَ بِحُيَيّ بْنِ أَخْطَب إلَى النبي صلى الله عليه وسلم
وَوَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيْهِ قَالَ : أَمَا وَاَللّهِ مَا لُمْت نَفْسِي
فِي مُعَادَاتِك ، وَلَكِنْ مَنْ يُغَالِبْ اللّهَ يُغْلَبْ ! ثُمّ قَالَ
: يَا أَيّهَا النّاسُ لا بَأْسَ قَدَرُ اللّهِ وَمَلْحَمَةٌ كُتِبَتْ
عَلَى بَنِي إسْرَائِيل ، ثُمّ حُبِسَ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ .
ومهما طال ليل الظُّلْم .. فإن صُبْح العَدْل والانْتِصَاف منهم قَريب ..
ومهما طالت أيام الظالمين .. فإن نهايتهم وَشِيكة وأيامهم معدودة ..
ومهما قَويَت شوكة الطُّغيان .. فإنها مَكْسُورَة مَدْحُورة بإذن الله ..
وعُقبى الظُّلْم وَخِيمة ..
كأني بِمشهد يحيى البرمكي مُكَبَّلا بالقيود ، مطروحا في السجن
فيُسأله ابنه :
يا أبتِ بعد الأمر والنهي والنعمة صِرْنا إلى هذا الحال ؟!
فردّ الأب وقال بِنَظْرة ثاقبة تخطّت حدود القيد والسجن :
يا بنى دعوة مظلوم سَرَتْ بليل ونحن عنها غافلون ، ولم يغفل الله عنها .
ثم أنشأ يقول :
رب قوم قد غَدَوا في نعمةٍ *** زَمَنًا والدَّهرُ رَيانُ غَدَق
سَكَتَ الدهرُ زَمَانًا عنهمُ *** ثم أبكاهم دَمًا حين نَطَق
ونهاية الظُّلْم عُرْس المظلومين وأفراحهم .. (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)
مآتم الظلم تَتْلُوهُنّ أعياد = إياكِ أن تجزعي إياكِ بغدادُ
قد استبدّ بأهليك الطُّغَاة أذى = وراح يمتحن الأحرارَ جلاّدُ
حتى تَهَدّم صَرح الظلم وانكفأت = قِدْر الفساد وأهل الظلم قد بادوا
نهاية الظُّلْم يا بغداد واحدةٌ = الله والحق والتاريخ أشهادُ
وهذا الحدث الماثل أمام العيان .. مليء بالعِبَر والدروس ..
فهل مِن مُعتبر ؟
ومِن أبرز الدروس .. أن مَن يضحك أخيرا يضحك كثيرا .. وأن العبرة بالنهايات ..
وأن تتبّع عورات الناس وتكميم أفواههم وكبت حُرّياتهم ومراقبة كل
تصرّفاتهم .. تؤدِّي إلى إفساد الناس .. مِن حيث أراد الحاكم الاحتياط
والإصلاح !
قال معاوية رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنك
إن اتّبعت عورات الناس أفْسَدتهم ، أو كِدْت أن تُفْسِدهم . فقال أبو
الدرداء : كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم نَفَعَه
الله تعالى بها . رواه أبو داود بإسناد صحيح .
وأن ما نَسْمَعه مِن أرقام تسعينية ! تتوّج بها كل انتخابات ! لِتُعلِن
فوز الحزب الحاكم .. ما هي إلاّ وَهْم وخِداع .. كَشَفَتْ زيفَه الأيام ..
فتلك الجموع التي تخرج بين حين وآخر غاضبة .. تُعلِن حقيقة الأرقام ، ونتائج الانتخابات !
وفَرْق – أيّما فَرْق – بَيْن مَن تتمسّك به الشعوب لِعَدْله وقيامه بما
وَجب عليه في سُدّة الْحُكم ، وبين مَن تقذف به الشعوب في زبالات التاريخ !
وأن الظالِم يَضرّ غيره كما يَضرّ نفسه .
قال يحيى بن أبي كثير : أمَرَ رَجُل بِالْمَعْرُوف ونَهَى عن الْمُنْكَر .
فَقَال له رَجُل : عليك بِنَفْسِك ، فإنَّ الظَّالِم لا يَضُرّ إلاَّ
نَفْسَه . فقال أبو هريرة : كَذَبْت والله الذي لا إله إلاَّ هو ! ثم قال
: والذي نفسي بِيَدِه إنَّ الْحُبَارَى لَتَمُوت هَزْلاً في وَكْرِها
بِظُلْم الظَّالِم .
وأن الظالِم سيشرب في الكأس التي سَقَى بها غيره .. فَمُقِلّ ومُسْتَكْثر .. بِقَدْر ما سَقَى سيُسْقَى !